q
محاولات إعادة اختراع النقود تعود إلى تاريخ طويل. وكما تشير عالِمة الاجتماع فيفيانا زيليزر في كتابها بعنوان المعنى الاجتماعي للنقود: \"على الرغم من الفكرة الراجحة بأن الدولار هو الدولار، فحيثما نظرنا يواصل الناس خلق أنواع مختلفة من النقود\". والعديد من هذه تعمل على توليد إثارة...
ROBERT J. SHILLER

 

نيوهافين ــ تزعم ثورة العملات الرقمية المشفرة، التي بدأت بالبيتكوين في عام 2009، أنها تخترع أنواعا جديدة من النقود. فالآن هناك ما يقرب من 2000 عملة رقمية مشفرة، والملايين من الناس في مختلف أنحاء العالَم متحمسون لها. ولكن ما الذي يفسر هذا الحماس، الذي يظل متقدا حتى الآن، على الرغم من التحذيرات التي تزعم أن هذه الثورة مجرد خدعة؟

يتعين على المرء أن يضع في الاعتبار أن محاولات إعادة اختراع النقود تعود إلى تاريخ طويل. وكما تشير عالِمة الاجتماع فيفيانا زيليزر في كتابها بعنوان المعنى الاجتماعي للنقود: "على الرغم من الفكرة الراجحة بأن الدولار هو الدولار، فحيثما نظرنا يواصل الناس خلق أنواع مختلفة من النقود". والعديد من هذه تعمل على توليد إثارة حقيقية، على الأقل لبعض الوقت".

وبوصفها وسيلة للتبادل في مختلف أنحاء العالَم، فإن النقود في تجسيداتها المختلفة غنية بالغموض. فنحن نميل إلى قياس قيمة الناس بها. وهي تلخص الأمور ليس كمثل أي شيء آخر. ومع ذلك، قد لا تتألف النقود من شيء أكثر من مجرد قطع من ورق تدور وتدور في دوائر الإنفاق. وعلى هذا فإن قيمتها تعتمد على الثقة في هذه القطع من الورق. وربما يكون بوسعنا أن نعتبر هذه الحال نوعا من الإيمان.

وقد يُنظَر إلى خلق نوع جديد من النقود على أنه إعلان عن إيمان المجتمع بفكرة ما، ومحاولة لإلهام تحقيق هذه الفكرة. في كتابه بعنوان "مأساة اليورو: دراما من تسعة فصول"، يزعم رجل الاقتصاد أشوكا مودي أن المبرر الشعبي الحقيقي لإنشاء العملة الأوروبية في عام 1992 كان نوعا من "التفكير الجمعي"، إيمان "متجذر في أنفس الناس" بأن "مجرد وجود عملة موحدة... من شأنه أن يخلق الدافع الذي يحمل الدول على التجمع حول إطار سياسي أوثق".

ويبدو أن الأفكار الجديدة للنقود ترافق الثورة، كما تأتي مصحوبة بسرد مقنع يسهل فهمه. في عام 1827، افتتح يوشيا وارنر متجر "سينسيناتي تايم ستور"، الذي كان يبيع السلع في وحدات من ساعات العمل، اعتمادا على "أوراق عمل"، والتي كانت تشبه النقود الورقية. واعتُبِرَت النقود الجديدة شهادة على أهمية العاملين، إلى أن أغلق المتجر في عام 1830.

بعد عامين، حاول روبرت أوين، الذي يوصف أحيانا بأنه "أبو الاشتراكية"، إنشاء بورصة العمل الوطني العادل في لندن، اعتمادا على أوراق العمل أو "نقود الوقت" كعملة. وهنا أيضا، ساعد استخدام الوقت بدلا من الذهب أو الفضة كمعيار للقيمة في فرض مفهوم أولوية العمل. ولكن مثلها كمثل متجر الوقت الذي ابتكره وارنر، فشلت تجربة أوين.

على نحو مماثل، اقترح كارل ماركس وفريدريك إنجلز أن الفرضية الشيوعية المركزية ــ "إلغاء الملكية الخاصة" ــ ستكون مصحوبة بما أسمياه "الإلغاء الشيوعي للشراء والبيع". لكن إلغاء النقود كان مسعى مستحيلا، ولم تفعل ذلك قَط أي دولة شيوعية. بدلا من ذلك، وكما أظهر المعرض الأخير للمتحف البريطاني بعنوان "عملة الشيوعية"، أصدرت الدول الشيوعية نقودا ورقية تحمل رموزا زاهية للطبقة العاملة. وكان عليها أن تفعل بالنقود شيئا مختلفا.

خلال فترة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، اقترحت حركة راديكالية ارتبطت بجامعة كولومبيا وحملت مسمى "تكنوقراطية"، الاستعاضة عن الدولار المدعوم بالذهب بكمية من الطاقة، أو الإرج (erg). وفي كتاب أصدرته الحركة بعنوان "ألف باء التكنوقراطية"، والذي نُشِر تحت اسم مستعار، فرانك آركرايت"، قدمت فكرة مفادها أن وضع الاقتصاد "على أساس من الطاقة" من شأنه أن يتغلب على مشكلة البطالة. وأثبتت بدعة التكنوقراطية أنها زائلة قصيرة العمر، بعد أن فضح كبار العلماء زيف الحجج الفنية التي قامت عليها الفكرة.

لكن الجهد المبذول لإلباس فِكرة نصف مدروسة ثوب العلوم المتقدمة لم يتوقف عند ذلك الحد. فبالتوازي مع التكنوقراطية، اقترح في عام 1932 رجل الاقتصاد جون بيز نورتون، مخاطبا الجمعية الاقتصادية، إنشاء دولار ليس مدعوما بالذهب بل بالكهرباء. ولكن في حين حظي دولار نورتون الكهربائي باهتمام كبير، فإنه لم يكن لديه أي سبب وجيه يدفعه إلى اختيار الكهرباء بدلا من سلع أخرى لدعم الدولار. وفي وقت حيث كانت أغلب الأسر في الدول المتقدمة لم تحصل على الكهرباء إلا مؤخرا، وكانت الأجهزة الكهربائية من الراديو إلى الثلاجة دخلت إلى البيوت للتو، استحضرت الكهرباء صورا لأبرز العلوم الراقية. ولكن مثلها كمثل التكنوقراطية، أتت محاولة استمالة العلم بنتائج عكسية. وفي عام 1933، لم ير الكاتب هاري فيليبس في الدولار الكهربائي سوى مادة للكوميديا، فقال: "ولكن من المسلي للغاية أن نحصل على استمارة ضريبة الدخل فارغة فنرسل للحكومة 300 فولت".

الآن أصبح لدينا فكرة جديدة مرة أخرى: البيتكوين وغير ذلك من العملات الرقمية المشفرة، والتي أنتجت ما يسمى العرض الأولي للعملة. ادّعى المصدرون أن العروض الأولية للعملة معفاة من الضوابط التنظيمية الخاصة بالأوراق المالية، لأنها لا تنطوي على نقود تقليدية ولا تمنح ملكية الأرباح. وعلى هذا فإن الاستثمار في عرض أولي للعملة يمثل إلهاما جديدا تماما.

اقترن كل من هذه الإبداعات النقدية بقصة تكنولوجية فريدة من نوعها. لكن على نحو أكثر جوهرية، كانت جميعها مرتبطة بتوق شديد إلى شكل من أشكال الثورة في المجتمع. فالعملات الرقمية المشفرة تُعَد بيانا بالإيمان أو الثقة في مجتمع جديد من رواد الأعمال المتمدينين الذين يعتبرون أنفسهم فوق الحكومة الوطنية، التي يُنظَر إليها باعتبارها المحرك لقطار طويل من التفاوت بين الناس والحروب.

وكما كانت الحال في الماضي، يرتبط افتتان عامة الناس بالعملات الرقمية المشفرة بنوع من الغموض، مثل غموض قيمة النقود ذاتها، الذي يتألف من اتصال النقود الجديدة بالعلم المتقدم. فعمليا، لا يستطيع أحد من خارج أقسام علوم الكمبيوتر أن يفسر كيف تعمل العملات الرقمية المشفرة. ويخلق هذا الغموض هالة من التفرد، ويضفي على النقود الجديدة بريقا، ويملأ المخلصين بحماسة ثورية. لا شيء من هذا جديد. وكما كانت الحال مع الإبداعات النقدية في الماضي، فقد لا تكون القصة المقنعة كافية.

* روبرت جيه شيللر، الفائز في جائزة نوبل في الاقتصاد في 2013، وأستاذ علوم الاقتصاد بجامعة ييل، وشارك في خلق مؤشر كيس شيلر لأسعار المساكن في الولايات المتحدة. ومؤلف كتاب من الوفرة الطائشة، الطبعة الثانية التي توقع فيه الانهيار القادم من فقاعة العقارات
https://www.project-syndicate.org/

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق