q
ان التقوى تبدأ عملية فردية ترافق الانسان الصائم في فريضته الصامتة، فاذا نجحت عند هذا وعند ذاك، وتكررت النجاحات حتى تحول العملية الى تقوى مجتمعية، عندئذ بامكاننا الحديث عن الوحدة والتلاحم والتماسك في المجتمع الذي له مدخلية في جميع المسائل الحيوية والمصيرية، من تنمية اقتصادية وتطور سياسي وتكافل اجتماعي.

بعد أن أنهى رسول الله، صلى الله عليه وآله، خطبته الرمضانية المشحونة بالوصايا والوجيهات الاخلاقية والروحية، سأله الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، بأن "يا رسول الله! ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله -عزَّ و جلَّ-".

وفي القرآن الكريم وايضاً في السيرة المطهرة، ثمة تأكيد واضح على التزام التقوى والورع ذو المدخلية بالعلاقات الاجتماعية، على أن المطلوب ليس الانسان المتقي والورع والملتزم بأحكام الله ليعيش وحده في هذه الحياة، إنما المسألة تتعلق ببناء المجتمع والامة على أساس التقوى ومخافة الله –تعالى-.

وفي شهر رمضان المبارك، فان الفرصة تكون مؤاتية لاستثمار شهر الصوم لايجاد مصاديق عملية للتقوى المجتمعية، ولعل من أهداف الصوم، وهو عبادة خاصة تعني بين العبد وربه، هو ان ينعكس الإمساك عن الطعام وعن الشراب وعن الغريزة الجنسية، على سلوك الصائم وهو يتعامل مع افراد أسرته أولاً؛ ثم مع جيرانه واصدقائه والمحيطين به؛ سواء من القريبين او البعيدين عنه.

خلال الأحد عشر شهراً الماضية جربنا عوامل عدّة للتقارب بين افراد المجتمع، سواءً؛ التقارب في المستويات المعيشية، او التقارب في الآراء والافكار، فكان للمال والسياسة الدور الفاعل والقوي في الساحة، ولا ننكر نسبة النجاح في هذا المضمار، بيد أن الفشل والارتداد عكسياً بأضرار فادحة على المجتمع، لا يجب التغاضي عنه ايضاً، لأن ببساطة؛ ليس كل الناس يمتلكون الاموال للانفاق وبسط موائد الإفطار او توزيع المساعدات العينية او ما يسمى بـ "السلّة الرمضانية" التي تعد من أعمال البر المهمة والمؤثرة، كما إن الشريحة السياسية هم أناس معدودين يحظون بمواصفات وقدرات خاصة تمكنهم من جمع الناس حول عناوين مختلفة، وهي ايضاً من الامور الحضارية المطلوبة، والتي يعد التنظيم أولى ثمارها.

بيد أن المشكلة في كل هذا، عدم وجود الضمانات للاستمرارية وايضاً للنتائج المرجوة، فأي خطأ في الأداء ربما يؤدي الى كوارث وأزمات تبدد كل الجهود المبذولة، بينما تقوى الله، وفي هذا الشهر الكريم، يمثل عملاً ذاتياً يتسم بالعفوية والعمق، ويجعل صاحبه ذو مسؤولية والتزام إزاء نفسه أولاً؛ ثم الآخرين، وهو الأهم، وهذا ممكن ان ينسحب على سائر أشهر السنة.

ولذا نجد أحد علمائنا يربط بين التلاحم الاجتماعي والوحدة في صفوف المجتمع والامة، وبين حالة التقوى في القلب، فالقاعدة الأقوى التي يقوم عليها وحدة المجتمع، هي التقوى والعلاقة المتينة مع الله –تعالى- فاذا كان افراد المجتمع يستسهلون أكل الربا وانتهاك الحرمات والتطفيف في الميزان والخيانة والكذب وغيرها من الرذائل، كيف يمكنهم مد يد الصداقة والتعاون مع الآخرين بحكم قاعدة عدم جواز اجتماع النقيضين.

ورب سائل عن كيفية تنمية ملكة التقوى في النفس؟

لقد كتب وتحدث علماؤنا كثيراً عن هذه المسألة الاخلاقية ذات الابعاد الواسعة، وباختصار؛ فان بامكان الواحد منّا تقوية إرادته على الورع والتقوى وعدم الاستجابة الى الرغبات والنزعات مهما كانت الظروف، وذلك بمساعدة عوامل عدّة منها؛ المداومة على تلاوة القرآن الكريم والتدبّر في آياته، والحضور في مجالس الذكر، حيث البحوث الثقافية والفكرية والعقائدية، وايضاً؛ الانفتاح الكامل على الأدعية والاعمال المندوبة في هذا الشهر الفضيل التي تشحذ الهمة على طاعة الله –تعالى- وحده، والخوف من عقابه، وهذه العملية الروحية والاخلاقية غير مقتصرة على الثري او العالم او الوجيه الاجتماعي والسياسي، إنما تعم الجميع، وربما تكون مصداق لكلام رسول الله، في إجابته على سؤال احد الاصحاب خلال خطبته الرمضانية وهو يدعو الى إفطار الصائمين، بأن "يا رسول الله! و ليس كلّنا يقدر على ذلك، فقال: اتّقوا النار و لو بشقّ تمرة، اتّقوا النار و لو بشربة من ماء".

إن التقوى تبدأ عملية فردية ترافق الانسان الصائم في فريضته الصامتة، فاذا نجحت عند هذا وعند ذاك، وتكررت النجاحات حتى تحول العملية الى تقوى مجتمعية، عندئذ بامكاننا الحديث عن الوحدة والتلاحم والتماسك في المجتمع الذي له مدخلية في جميع المسائل الحيوية والمصيرية، من تنمية اقتصادية وتطور سياسي وتكافل اجتماعي.

اضف تعليق