q
في ظل بيئة تجعل من الرئيس ومن ينتمي لحزبه ومن يمجده هو الأقرب لتحقيق مصالحه، وفي ظل اقتصاد غير موجود أصلا، يسنده جهاز امني لا يعرف من الرحمة شيء اصبح التعبير على الراي في زمن البعث المقبور \"ترفاً\" لا يمارسه الا من يعشق الموت، او تدرب على تحمل ضربات \"الكيبلات\"، هل هذا يستحق ان نتمنى عودته؟...

لا يمكن الحديث عن التجربة الديمقراطية الحديثة في العراق دون ان يقتحم اسم "حزب البعث" المنحل منطقة النقاش، وكان تلك المرحلة أصبحت معيارية لتقييم التجارب السياسية اللاحقة، وهذا ما يطيل من عمر "حزب البعث" او يعيد له الحياة بشكل او باخر في الوقت الذي يفترض انه يقبع في أرشيف التاريخ غير القابل للجدل حول سوداوية تلك الفترة التي مر بها العراق.

ان "تتحدث بدون رقيب او دون ان يسمعك الحائط فهذه من نعم النظام الجديد"، هكذا يقول مناصرو التجربة الديمقراطية القائمة على المحاصصة، بينما يرفع مناصرو التجربة البعثية السوداء ملف الامن المفقود في البلاد والذي يفترضونه ان أجهزة الحكم آنذاك كانت توفره بالمجان.

هذه القضية خطيرة جدا وتنذر بعواقب وخيمة في المستقبل إذا لم يتم تكثيف الحوار حولها، فالمسالة ليست بالبساطة التي يريد لها منظرو الفيس بوك في تعليقات قصيرة مع تشكيلة من الشتائم بين الفريقين، انما نحن اليوم بحاجة الى كشف حقيقة الأمور، فربما يكون نظام حزب البعث أفضل من هذا الذي نعيش في ظله؟ وربما كانت بعض الجوانب الأساسية التي يوفرها نظام الحزب الواحد قد غابت الان؟ وفي الجهة الأخرى فان التجربة الحديثة قد تكون أفضل من سابقتها لأنها اعادت للمواطن لسانه؟ وربما تكون افضل من سابقتها لأنها جعلت المواطن يستطيع تحديد من يمثله في البرلمان عبر صناديق الاقتراع؟ ومن فضائل هذه التجربة أيضا كما يقول أصحابها انها اعادت العراق الى المجتمع الدولي.

في أي دولة يحتاج المواطن الى أربعة أمور اساسية:

الاول: ان يوجد معيار للسلوك الاجتماعي العام يحدد العلاقة بين المواطنين أنفسهم وبين المواطنين والحكومة، وهو ما يسمى بـ "القانون".

الثاني: اقتصاد قوي يلبي متطلبات العيش للمواطنين.

الثالث: جهاز أمنى قادر على منع أي اعتداء على ممتلكات المواطنين او حقوقهم.

الرابع: ان يكون للمواطن حرية الحديث عن القضايا العامة دون قيود من أي جهة كانت.

لو اسقطنا هذه الأسس على أي تجربة سياسية فانها كفيلة بالخروج باستنتاجات واقعية، لا علاقة لها بالعواطف او الرغبات الشخصية، وبما ان الاحاديث تكثر هذه الأيام عن مقارنات بين التجربة البعثية ونظيرتها الديمقراطية فإننا يمكن نسال عن الأساس الأول الذي طرحناه وهو "القانون".

بالنسبة للتجربة السابقة والحالية فان الكثير من القوانين غير مطبقة، ولكن أيضا هناك الكثير من القوانين المطبقة سواء في السابق او الان، الا ان الشيطان يكمن في الجزئيات، وربما حتى في القضايا الكبرى، فمن اساسيات القانون ان يتساوى الناس بالحقوق والواجبات ولا فرق بينهم سواء كان مسؤولا كبيرا حتى وان وصلت درجته الى مستوى رئيس الجمهورية او أصغر موظف في الدولة، فما تقره القوانين النافذة هو الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الطرفين.

فهل كان النظام السابق يطبق القوانين؟ او كم نسبة تطبيق القانون سابقا؟ للإجابة على هذا السؤال يجب ان نعود الى أيام الدراسة، حينما كنا نجد في كل كتاب صورة "السيد الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه"، واي اشارة بالقلم من قبل الطالب على هذه الصورة التي تحتل الصفحة الأولى، تعني ان صاحب الكتاب قد يسجن او يتم توبيخه من الإدارة في اقل تقدير إذا كان ولي امره بعثيا او مقربا من البعث.

كانت العلاقة بين المواطنين مرتبكة وكل واحد منهم يخشى صديقه وابن عمه وخاله، بل انهم كانوا يخشون حتى من الحائط، وقد أصبحت هذه الحالة عرضة للتندر من قبل المواطنين فـ"الحائط له اذن يسمع بها ولسان ينطق به عندما يأتي رجال الفرقة الحزبية". وبعض الناس لم يمروا بهذه التجربة كلها لانهم عاشوا في كنف الحزب الحاكم او انهم لا يهتمون بالقضايا العامة للبلد.

اما العلاقة بين المواطن والدولة فهي محكومة بمدى القرب او البعد عن حزب البعث، فالمنتمي للحزب يفضل على غير المنتمي وصاحب الدرجة الحزبية الأعلى يكون مفضلا على من هو دونه، اما غير المنتمي فهو معرض لرادارات الرصد الدائمة من كل مكان، حتى ان بعض الناس (ومن ضمنهم بيت كاتب هذا المقال) كان المخبرون السريون يترصدونه يوميا عبر الاختباء خلف الأشجار الكثيفة في البساتين، للاستماع الى احاديث الاهل مع بعضهم، واذا ما كانت هناك اعتراضات على سياسات حزب البعث فانها ستكون في الصباح بين يدي مسؤول الفرقة الحزبية للمنطقة ليتخذ الاجراء اللازم واقله السجن لعدة أيام او دفع مبلغ مادي كبير مقابل السكوت عن جريمة "انتقاد النظام السياسي القائم".

وبالانتقال الى الجانب الاقتصادي الذي يعد عماد الحياة، فيكفي القول ان البلد كان يعيش على المساعدات الإنسانية، والنظام الحاكم اوصله الى المجاعة بعد حروبه التي أدت الى فرض حصار ظالم على الشعب من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ويتذكر العراقيون جيدا كيف كان اكل الخبز الخالي من المخلفات والاجسام الغريبة امرا غاية في الصعوبة، وبعضهم يتحدث عن طحن "براز الدجاج" مع الحنطة من اجل توفير مادة "الطحين"، بينما كان شراء "موزة" واحدة يتطلب ذلك صرف نصف اجرة عامل بناء في ذلك الزمن، (كانت اجرة العام 1500 دينار بينما كانت الموزة الواحدة تباع بـ"750" دينار)، بمعنى ان الموزة الواحدة بأسعار الان تعادل "اثني عشر الف دينار ونصف"، هذا فضلا عن الغياب التام لبعض المواد الغذائية الأساسية.

اما بالنسبة للأجهزة الأمنية ودورها في القيام بوظيفتها فهي لا تتخذ من حماية المواطن معيارا لنجاحها، ومهمتها الأساسية هي توفير الغطاء للنظام الحاكم، وقد وصل الامر بهذه الأجهزة الى إزالة قرى كاملة لانها أطلقت النار على موكب رئيس الجمهورية آنذاك "صدام حسين"، في منطقة الدجيل، بمحافظة تكريت، والحادثة لا تحتاج الى تذكير أكثر.

في بغداد كان ذكر اسم "الشعبة الخامسة" مرادفا للإرهاب (ضروبا بعشرة)، ومعادلا صوريا لعشرات الأجساد المقطعة بالتعذيب، ولا فرق في حينها بين ان يحملك الناس الى وادي السلام بالنجف الاشرف او اقتيادك الى "الشعبة الخامسة" لانك في الحالتين قد فقدت حياتك او رأيت ما هو اسوء من الموت.

هذه الأجهزة الأشد قمعية في المنطقة، كانت لا تجد أي حرج في اجبار المواطن الذي يملك سيارة في وضعها بخدمتهم والذهاب معهم الى محافظات أخرى وقضاء يوم او يومين او اكثر دون ان يعلم به اهله، وكل ذلك يحدث تحت ما يسمى "السخرة".

في ظل هذه البيئة التي تجعل من الرئيس ومن ينتمي لحزبه ومن يمجده هو الأقرب لتحقيق مصالحه، وفي ظل اقتصاد غير موجود أصلا، يسنده جهاز امني لا يعرف من الرحمة شيء اصبح التعبير على الراي في زمن البعث المقبور "ترفاً" لا يمارسه الا من يعشق الموت، او تدرب على تحمل ضربات "الكيبلات".

هل هذا يستحق ان نتمنى عودته؟ وإذا كان هناك من يريد عودته بحجة غياب بعض الأمور الأساسية التي لم يوفرها النظام الجديد، فقد يعاني هؤلاء من مشكلات حقيقة في التفكير السليم، نحن لا نحتاج لعودة البعث لكي نصلح النظام الحالي، فقط نحتاج الى اصلاح نظام المحاصصة. وكفى الله المؤمنين شر حزب البعث.

اضف تعليق