q
إذا فشل تطويع النظام بحيث يعمل لصالح المزيد من الناخبين، فربما تنتهي الحال بفرنسا إلى مسار أشبه بما حدث في الولايات المتحدة، وفي مثل هذا السيناريو، يُصبِح التحالف عبر الأطلسي ــ والنظام العالمي الذي يستند إليه ــ في ورطة عميقة حقا...
DOMINIQUE MOISI

 

باريس ــ في عام 1965، نشر هنري كيسنجر كتابا بعنوان "الشراكة المكروبة"، تناول فيه بالفحص والدرس التوترات التي أثرت على التحالف عبر الأطلسي خلال الحرب الباردة. وقد زعم أن النظام الدولي المستقر يستلزم قيادة الولايات المتحدة ــ النموذج القوي للديمقراطية في العالَم ــ التي تدعمها روابط قوية مع أوروبا. ولعل كيسنجر ما كان ليتخيل أبدا أن تلعب الولايات المتحدة بعد أقل من ستين عاما الدور المعاكس تماما، مع ظهور نسخة جديدة أكثر قتامة من التحالف عبر الأطلسي.

ولنتأمل هنا المؤتمر الذي عقده حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في فرنسا الأسبوع الماضي. بعد إعادة انتخابها زعيمة للحزب، أعلنت مارين لوبان أن اسم الحزب من المقرر أن يصبح "التجمع الوطني". وكان ضيف الشرف على هذا الحدث المهم ستيفن بانون، كبير الخبراء الاستراتيجيين في إدارة دونالد ترمب سابقا.

ذات يوم، كتب كارل ماركس: "كل الحقائق والشخصيات التاريخية العالمية تظهر، لو جاز التعبير، مرتين، المرة الأولى كمأساة، والثانية كملهاة". ومن السهل أن ندرج المؤتمر الذي استضافته مدينة ليل في فرنسا تحت فئة "الملهاة" أو "المهزلة". فكل من لوبان وبانون منبوذ سياسيا.

فقد خسرت مارين لوبان الانتخابات الرئاسية الفرنسية لصالح إيمانويل ماكرون العام الماضي بأغلبية ساحقة. وعلاوة على ذلك، تواجه لوبان الآن تحديا داخل حزبها من قِبَل ابنة شقيقها الأكثر شبابا وإثارة للإعجاب من الناحية الفكرية ماريون مارشال لوبان، التي تحدثت قبل نائب رئيس الولايات المتحدة مايك بنس في اجتماع لجنة العمل السياسي المحافظ في فبراير/شباط في واشنطن العاصمة.

أما عن بانون، فقد طرده ترمب بفظاظة في أغسطس/آب 2017. وما زاد من قسوة الأمر أن ترمب أصدر بيانا أعلن فيه أن بانون "لم يسهم بأي قدر يُذكَر" في تمكينه من الفوز في الانتخابات الرئاسية، وأنه لم يخسر وظيفته فحسب، بل فَقَد "عقله أيضا" عندما فُصِل.

كان حضور بانون ذلك الحدث في ليل متناقضا. إذ كان فصله من وظيفته راجعا جزئيا إلى تطرفه، في حين تحاول لوبان حاليا توسيع القاعدة الداعمة لحزبها من خلال تخفيف صورته الحادة. ولكن من ناحية أخرى، كانت مشاركته منطقية تماما، لأنها عكست التطور الجاري الذي يشهده التحالف الشعبوي عبر الأطلسي، والذي يمثل شكلا كئيبا قاتما من "جغرافية القيم" التي استند إليها تحالف الحرب الباردة.

على الرغم من النكسات السياسية التي حلت به، يؤكد بانون أن "مد التاريخ" يتحرك بشكل لا يقاوم نحو الشعبويين. فمن منظوره، أصبحت مسألة وقت فقط، منذ نجح ترمب في تأمين رئاسة الولايات المتحدة ــ وهو التطور الذي أدى إلى زعزعة استقرار النظام العالمي الذي يريد بشدة بانون وأمثاله إحراقه ــ قبل أن تسير أوروبا على خطى أميركا.

من الخطورة بمكان استبعاد رؤية بانون على أنها مجرد ثرثرة. فربما انتصر ماكرون في فرنسا، لكن النصر الانتخابي الذي حققه ترمب لم يكن من قبيل المصادفة. ولم يكن من قبيل المصادفة أيضا ذلك الأداء القوي الذي أظهرته الأحزاب الشعبوية في انتخابات هذا الشهر في إيطاليا، حيث نجح حزب الاتحاد المناهض للهجرة وحزب حركة النجوم الخمسة المناهض للمؤسسة معا في الحصول على نحو 50% من الأصوات.

وحتى ألمانيا وقعت إلى حد ما ضحية لقوى شعبوية. صحيح أن حكومة ائتلافية كبرة جديدة ــ تضم حزب المستشارة أنجيلا ميركل الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وشقيقه البفاري حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، والحزب الديمقراطي الاجتماعي ــ تشكلت أخيرا. لكن الأمر استغرق أكثر من خمسة أشهر للتوصل إلى اتفاق بين الأحزاب، والآن أصبح حزب المعارضة الأكبر هو البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف. وفي الدولة التي بدا الأمر وكأنها محصنة ضد الشعبوية بفِعل تاريخها النازي، فإن هذا يشكل تطورا مزعجا بشكل خاص. فالديمقراطية أكثر هشاشة مما قد يبدو، ولا يجوز لنا أبدا أن نتعامل معها باعتبارها أمرا مفروغا منه.

كيف يمكننا إذن وقف المد الشعبوي؟ بادئ ذي بدء، يتعين على النخب السياسية على ضفتي الأطلسي التي لا تزال تؤمن بالديمقراطية الليبرالية أن تدرك أنها هي المسؤولة عن صعود الشعبوية، بسبب فشلها في الاستجابة بالشكل الملائم لمخاوف الناخبين. ويتعين عليها أن تعمل بلا كلل أو ملل على إيجاد حلول حقيقية للمشاكل، من التفاوت بين الناس إلى الهجرة، والتي غذت الدعم الذي حظيت به القوى الشعبوية. ولا يجب أن تكتفي هذه الحلول بمعالجة التحديات الفنية فحسب، بل يتعين عليها أن تتعامل أيضا مع مشاعر المواطنين ــ التي استغلها الشعبويون ببراعة ــ بالحرمان من حقوقهم الشخصية وفقدان الهوية.

بطبيعة الحال، يتعين على الديمقراطيين في الولايات المتحدة أيضا أن يعملوا على إيجاد مرشح مقنع لخوض السباق ضد ترمب في الانتخابات الرئاسية عام 2020. كما يتعين على فرنسا وألمانيا المضي قدما على مسار تحقيق المزيد من التكامل الأوروبي. وهنا تتحمل فرنسا مسؤولية خاصة تحت زعامة ماكرون.

على النقيض تماما مما قال بانون في ليل، فإن ماكرون ــ وليس لوبان وحزبها في ثوبه الجديد ــ هو الذي يحمل المفتاح إلى مستقبل الديمقراطية في فرنسا. وإذا فشل تطويع النظام بحيث يعمل لصالح المزيد من الناخبين، فربما تنتهي الحال بفرنسا إلى مسار أشبه بما حدث في الولايات المتحدة، وهو ما يشكل سابقة بالغة الخطورة لبقية أوروبا. وفي مثل هذا السيناريو، يُصبِح التحالف عبر الأطلسي ــ والنظام العالمي الذي يستند إليه ــ في ورطة عميقة حقا.

* دومينيك مويسي، كبير المستشارين في IFRI (المعهد الفرنسي للشؤون الدولية) والأستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس ومؤلف كتاب الجغرافيا السياسية
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق