q

فقدت السَّاحة الحركيَّة والعلميَّة والأَدبيَّة الْيَوْم أَحد الرُّوَّاد الأَوائل الذين أَعطَوا للقِيم كلَّ ما يملِكون من أَجل الله والحقِّ والحريَّة والكرامة.

فلقد فارقنا الْيَوْم في مدينة سيِّد الشُّهداء الحُسين السِّبط (ع) كربلاء المقدَّسة المرحوم المغفور لَهُ الحُجَّة الشَّيخ عبد الأَمير النَّصراوي بعد عُمرٍ ناهز الستِّين عاماً.

والفقد المرحوم هو أَحد أَوائِل الرساليِّين المُجاهدين الذين قارعُوا الديكتاتوريَّة والاستبداد عندما تصدَّى مُبكِّراً لنظام الطَّاغية الذَّليل صدَّام حسين وهو بعدُ في رَيعان الشَّباب مُؤمناً مُجاهداً!.

ولشدَّة هلع النِّظام البائد آنئذٍ من نشاطهِ وحركتهِ الدَّؤُوبة إِعتقلهُ أَزلام الطَّاغية وعمرهُ [١٦] عاماً فأُودع السِّجن في [نيسان ١٩٧٣] مع الثلَّة الرساليَّة المُؤمنة كان منهم الشَّيخ الشَّهيد عارف البصري والشَّيخ عبد الحميد المُهاجر والشَّيخ المرحوم محمَّد المُجاهد والسيِّد الشَّهيد نوري طُعمة والدُّكتور السيِّد مُحسن القزويني [مؤسِّس جامعة أَهل البيت (ع) الأَهلية في كربلاء المقدَّسة] والأُستاذ صادق الشَّكرجي [الذي تعرَّض للإِغتيال على يد زبانية الطَّاغية عندما دسُّوا لَهُ السُّمَّ في العام ١٩٨٤ خلال زيارتهِ التفقديَّة للجالية العراقيَّة في السِّويد ومازال يعاني من آثار السُّمِّ] والأُستاذ جَواد العطَّار والشَّيخ حسن الشَّكرجي والسيِّد عبد الحُسين القزويني والشَّيخ محمَّد حسن فتح الله والمرحوم السيِّد كمال الرَّضوي وآخرون.

ولقد قضت هذه الثلَّة المُؤمنة قرابة [٢٧ شهراً] في السِّجن قبل أَن يحكم نظام الطَّاغية على قبضةِ الهُدى بالإعدام [الشَّيخ البصري وأَربعة آخرون] ويتمُّ إِطلاق سراح الباقين في [تموز ١٩٧٥] منهم فقيدنا السَّعيد.

لقد كانت معنويَّات الفقيد في المُعتقل عاليةً جداً كبقيَّة إِخوتهِ فلم يُبدِ ضعفاً أَو تذمُّراً أَو تراجُعاً بل كان حتَّى في أَحلك ظروف السِّجن مِصداقاً لوصفِ أَميرِ المؤمنين (ع) {بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ، َحُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ} على الرَّغمِ من شدَّة التَّعذيب النَّفسي والجسدي الذي كان يتعرَّض لَهُ على يدِ زبانيةِ النِّظام الإِرهابي لابتزازهِ إِذا ما انهار وخارَت قِواه! إِلَّا أَنَّهُ ظلَّ ذلك الجبل الأَشمِّ الذي خرجَ من السِّجن مرفوعَ الرَّأسِ لم ينَل مِنْهُ الطَّاغية مُرادهُ! بل خرجَ أَشدُّ إِيماناً ويقيناً وعزماً على المُضيِّ قُدُماً في طريقهِ.

والشَّيخ الفقيد خطيبٌ مُفوَّه يتمتَّع بذكاءٍ ووعيٍ وذاكرةٍ قويَّةٍ يشهدُ لَهُ بذلك كلُّ مَن حضر مجالسهُ الحسينيَّة التي انتشرت في العديدِ من الدُّوَل خلال سنيِّ الهجرة في سَبِيلِ الله حتى استقرَّ به المقام مَعَ عائلتهِ الكريمة في مسقطِ رأسهِ ومرتعِ صباه وحاضنتهِ العلميَّة والأَدبيَّة والحركيَّة الأُولى كربلاء المقدَّسة التي فُجعت الْيَوْم برحيلهِ.

كما كان الفقيد السَّعيد أَديباً وشاعراً ومُتابعاً فكانَ مثلاً يعلِّق على مقالاتي، كلَّما أَسعفهُ الوقت ليطَّلع على وَاحِدَةٍ منها، بعدَّةِ أَبياتٍ من الشِّعر جميلةً ورائعةً ومسلِّيةً في آنٍ.

لقد عاشرتُ الفقيد السَّعيد عقوداً طويلةً من الزَّمن وعرفتهُ عن قُربٍ فلمستُ فيه الأَخلاق الحميدة والفاضِلة والإيمان الحقيقي والورَع والتَّقوى والبساطةِ في العيشِ حدَّ الكَفاف والتَّواضُع ولذلكَ فإنَّني لا أُبالغُ أَبداً إِذا قلتُ أَنَّهُ من مصاديقِ وصفِ أَمير المؤمنين (ع) للمُؤمن {الْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ، َحُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ، أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً، وَأَذَلُّ شَيْءٍ نَفْساً، يَكْرَهُ الرِّفْعَةَ، وَيَشْنَأُ السُّمْعَةَ، طَوِيلٌ غَمُّهُ، بَعِيدٌ هَمُّهُ، كَثِيرٌ صَمْتُهُ، مشْغولٌ وَقْتُهُ، شَكُورٌ صَبُورٌ، مغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ، ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ، وَهُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ}، وقولهُ (ع) {كَانَ لِي فيِما مَضَى أَخٌ فِي اللهِ، وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وَكَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلاَ يَشْتَهِي مَا لاَ يَجِدُ وَلاَ يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً! فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابٍ وَصِلُّ وَادٍ لاَ يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً، وَكَانَ لاَ يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ، وَكَانَ لاَ يَشْكُو وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ، وَكَانَ يقُولُ مَا يَفْعَلُ وَلاَ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ، وَكَانَ إذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلاَمِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَكَان إذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فيُخَالِفَهُ}.

كان هادئاً بطبعهِ، صبوراً ومتأنِّياً في كلِّ شَيْءٍ! يكرهُ العنفَ ويتحسَّس من الظُّلم ويتبنّى اللِّين في قولهِ وعملهِ وتعامُلهِ مَعَ الآخرين، وكان يُحبُّ الخيرَ لهم كما يحبُّهُ لنفسهِ.

ولقد ظلَّ مُستقيماً مُلتزماً بالنَّهج الرِّسالي كلَّ حياتهِ على الرَّغمِ من كلِّ التحدِّيات التي مرَّ بها فلم يُزغ من حقِّ إِلى باطلٍ ولَم يَبِع جهادهُ ولَم يُساوم على مُعاناتهِ.

فرحمكَ الله أَيُّها الشَّيخ المُجاهد من مُؤمنٍ لم تأخذهُ في الله لومةَ لائِمٍ.

ورحمكَ الله يَوْمَ وُلدتَ ويومَ جاهدت في الله حقَّ جهادهِ ويومَ رحلتَ ويومَ تُبعثُ حياً في مقعدِ صدقٍ عند مُليكٍ مقتدرٍ.

حشركَ اللهُ مَعَ الحُسينِ السِّبطِ (ع) الذي كُنتَ خادماً لَهُ ولِمِنبَرهِ أَكثر من نصفِ قرنٍ.

وصدقَ مَن قَالَ فانَّ مَن خلَّفَ لم يمُت فكيفَ إِذا كانَ خلَفُ الفقيدِ شيخاً أَديباً مؤَدَّباً وخطيباً ناشِئاً كالشَّيخ حُسين النَّصراوي؟!.

[email protected]

اضف تعليق