q

يشيد الكثير من الخبراء في الشأن الايراني بالفكرة الجبارة والحضارية التي أقدم عليها مؤسس الجمهورية الاسلامية في ايران، السيد الخميني –رحمه الله- في الايام الاولى لانتصار الثورة الاسلامية، بتأسيسه لمؤسسات خدمية وتنفيذية رديفة للوزارات، أملاً في أن تنهض هذه المؤسسات بمهمة الاستجابة لمطالب واحتياجات الشعب الايراني، كونها منبعثة من صميم هذا الشعب، فلا يحتاج لفترة طويلة حتى تتطبع الوزارات الموسومة بالتبعية للبلاط ورأس النظام البائد، اكثر من قربها للناس، فكانت مثلاً؛ مؤسسة جهاد البناء، الى جانب وزارة البناء والاسكان، ومؤسسة الحرس الثوري (حرس الثورة الاسلامية) الى جانب وزارة الداخلية وأجهزتها الامنية، ولجنة الإمام الخميني للإغاثة، وحركة مكافحة الأمية، الى جانب وزارة التربية، ومؤسسة الشهيد، ومؤسسات الاعلام الاسلامي، الى جانب وزارة الثقافة، ومؤسسات اخرى أطلق عليها؛ "المؤسسات الثورية" لإضفاء الصبغة الشرعية عليها والتخفيف من عدم دستوريتها.

وكان لهذه المؤسسات الفضل الكبير في أن لا يشعر الانسان الايراني طيلة ثمان سنوات من الحرب الضروس، بضنك العيش والضغوطات النفسية في ظل عقوبات اقتصادية اميركية ومقاطعة غير مكتوبة من المحيط الاقليمي والدولي، وتحديداً الغربي، فكانت هذه المؤسسات تساعد الحكومة والدولة آنذاك على سد الحاجات الضرورية من مواد غذائية ودوائية وسلع ضرورية لشريحة واسعة من الشعب الايراني بواقع سكاني يقدر آنذاك بـ(40) مليون نسمة، والأهم من كل ذلك؛ ملف الأمن الذي تكفل به الحرس الثوري ومؤسسات أمنية واستخباراتية متفرعة منه.

صحيح أن هذه المؤسسات "الثورية" كانت تابعة للدولة، وليست للقطاع الخاص، ولكن؛ ما كان أي مواطن ايراني يتعامل مع هذه المؤسسات، يستشعر انه يتعامل مع دائرة حكومية، فقد كانت لصيقة بحياة الناس، من الصغير الى الكبير؛ الفقير منهم والميسور، العالم منهم والجاهل ، بيد أن الخطأ الفاحش في هذه المسيرة عندما انحرفت المهمة الى "الخصخصة" في عهد الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني ضمن خطته الخمسية لإنعاش الاقتصاد الايراني وفي إطار برنامجه الاقتصادي الشهير "إعادة البناء"، فبدلاً من تعميم تجربة هذه المؤسسات الثورية على جميع شرائح المجتمع لاستقطاب الكفاءات والقدرات المتناثرة في ربوع ايران، وصهرها ثم صبّها في بوتقة مشروع بناء الاقتصاد الايراني المنهار بسبب حرب الثمان سنوات، وجدنا أن هذه التجربة توسعت وتضخمت لحساب اشخاص وجماعات، لتتحول فيما بعد الى كارتلات مالية ضخمة تمسك بزمام الصناعة و الانتاج والتصدير، مثال بسيط على نظام الخصخصة واقتصاد السوق الذي حلم به رفسنجاني؛ منح تراخيص استثمار مقلع للرخام لعوائل الشهداء، وقد اصطحبت شاب في العقد الثاني من العمر، تسلّم مقلع للرخام وسط ايران نيابة عن أسرته، وذلك ضمن عقد استثمار مع الحكومة، يستخرج هو الرخام ويصدره الى الخارج، ويعطي نسبة معينة من المردود المالي الى الحكومة، وهذه الأسرة التي يفترض انها من عوائل شهداء الحرب العراقية – الايرانية، تسكن في أرقى منطقة شمال العاصمة طهران.

حتى الثقافة والاعلام، شملها الخصخصة في عهد رفسنجاني ثم تبعه على الأثر، مناصره في هذه النظرية؛ الرئيس محمد خاتمي، بيد أنها وبدلاً من أن تنتج ثقافة ووعياً جماهيرياً، فانها كان طريقاً لإثراء العديد من دعاة الثقافة، من مدراء مؤسسات ورؤساء تحرير، فكانوا يتقاضون صكوكاً بملايين التوامين في سني التسعينات لقاء إصدار صحف ومجلات باللغات الاجنبية، بيد أن عدداً من خبراء الاقتصاد في ايران، يشيرون في دراساتهم الى أن رفسنجاني كان ينوي استنساخ تجربة الليبرالية الاقتصادية من الغرب، ونقل الاقتصاد من يد الدولة الى السوق، تحت شعار الانفتاح والإصلاح والتغيير وغيرها، ويتحدثون عن نواياه لتحويل ايران الى بلد متقدم اقتصادياً، بيد ان ضغوطاً واجهته ممن يوسمون "بالمحافظين" عرّض مشروعه التغييري الكبير الى الفشل والانهيار.

واذا انتقلنا الى واقع الاقتصاد العراقي، وجدنا في الوقت الحاضر متوثباً للانتقال من اقتصاد الدولة الى اقتصاد السوق، مع الترويج لفكرة الخصخصة وتشجيع الاستثمارات ودعم القطاع الخاص، بيد أن الحلقة الأهم التي يجب ان لا يفقدها المعنيون بالشأن العراقي؛ مصالح الشعب بكل شرائحه، لاسيما الشريحة الفقيرة حتى لا تكون هذه الخطوات الإصلاحية في الاقتصاد سبباً لتعميق الفجوة الطبقية كما حصل في ايران في عهد رفسنجاني، ثم العمل على تحقيق العدالة في فرص العمل، وعدم احتكاره في أسماء وواجهات معينة مهما كانت انجازاتها.

ولنتذكر التجارب الناجحة والصاعدة للإصلاح الاقتصادي والتغيير الى اقتصاد السوق، ومنه؛ الصين، التي دخلت اقتصاد السوق من بوابة الجماهير، وليس من بوابة الشركات الخاصة او أسماء الشخصيات المتنفذة، فوجدنا كل شيء يصنع في الصين، وهذا لم يكن ليتحقق لولا إعطاء الفرصة الكافية لجميع ابناء الشعب الصيني للإسهام في عجلة الانتاج، وهذا ما يجب ان يفكر به المعنيون بالاقتصاد العراقي، كما عليهم الالتفات أكثر الى القدرات والابداعات الكامنة في الجامعات والمعاهد واماكن أخرى من شأنها الإسهام في تحريك عجلة الاقتصاد العراقي ونقله بنجاح وسلام من اقتصاد الدولة واحتكارها الى اقتصاد السوق والمشاركة الجماهيرية في التطور والتقدم.

وفي غير ذلك، فان الواجهات الكبيرة التي تحتكر الانتاج والعمران وحتى العمل الثقافي والاعلامي وكل شيء بذريعة التخصص والإتقان، فان النتيجة لن تكون بأفضل مما حصل في ايران حيث تشهد بين فترة وأخرى فوران لبراكين الغضب بسبب سوء المعيشة والضغوطات الشديدة على حياة الانسان جراء الغلاء الفاحش وضعف القوة الشرائية والبطالة.

وهذا إن لم يكن في العاجل، فهو نتيجة حتمية في الآجل لأي خطأ في تطبيق الاقتصاد المفتوح، وإلا من كان يتوقع انفجار غضب جماهيري من هذا النوع وعلى نطاق بهذه الوسعة في مدن نائية في جنوب وشمال ووسط ايران، فهذا يدلّ على وجود النار تحت الرماد لسنين خلت، حيث كانت الجماهير الايرانية تمنّي النفس بالتغيير على يد هذا الرئيس الإصلاحي او تلك الجماعة الإصلاحية، فلا تجد سوى الوعود الفاقدة للمصداقية.

اضف تعليق