q

ترجع جذور الانظمة الاقتصادية الى فترات زمنية مختلفة ومتباينة، وبحسب تطور علم الاقتصاد كعلم مستقل لذاته، وان كانت السياسة ملتصقه به التصاقاً وثيقاً، ولأن هذه الانظمة شاعت واستمرت في داخل المجتمعات التي احتضنتها فقد ساهمت في تغييرها طبيعتها الاجتماعية بما يتناسب وطبيعة هذه الانظمة، فعلى سبيل المثال لو فحصنا الطبيعة المجتمعية داخل القطاع او النظام الاشتراكي كنهج اقتصادي، نجد أن ثمة كم هائل من الروتين الاداري والتعقيدات والقيود القانونية والتي كثير منها لا طائل منه سوى التعقيد نفسه.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى وبسبب هذا الروتين نجد أن الفرد قد ذاب في بوتقة الجماعة وانصهر حتى لم يعد له أي حقوق فردية كحرية التعبير عن الرأي أو المشاركة بل وحتى التملك. وبما أن السيادة هي للقطاع العام، نجد أن الكفاءة والمهنية والتخصص شبه غائب في هذه المنظومة التي تدير البلد والاقتصاد. حيث نجد أن الكثيرين من افراد المجتمع يعملون في وظائف قد لا تتناسب وطبيعة المهارات والشهادات التي يمتلكوها.

وفي ظل غياب الكفاءة والتخصص وروح المبادرة الفردية التي تُقتل داخل مصطلح الجماعة، فأن الابتكار قد يكون شبه معدوم داخل هذه المنظومة المعقدة وذات الهيكلية الضخمة. فلا تشجيع ولا تمييز ولا تحفيز، وحتى أن ظهر الابداع والابتكار فأنه ينُسب في غالبه للقيادات العليا لا الى صاحبها الحقيقي. هذا التهميش المقنن والمدروس بطبيعة الحال سوف ينعكس على نمط الحياة الاجتماعية لأي فرد يعيش في هكذا نظام.

ففي النظام الاشتراكي لا تفاوت في التملك والحريات وتحت ظل شعار مزيف من العدل والمساواة يقبع خلفه هوة هائلة من الفقر والتخلف، بسبب طبيعة الاشتراكية السياسية التي تعادي حتى نفسها اذا ما وجدت فيها خطر عليها، فالاشتراكية كالافعى التي تقضم نفسها عندما تظن ان ذيلها المتحرك هو جسم خطير يهدد مصالحها واهدافها المخملية التي لا واقع لها سوى توسيع النفوذ وبسط السيطرة اكثر فأكثر، حتى وان تطلب الامر التضحية بالالاف من المجتمع، وعليه فهي رسمت حدود للحياة لهؤلاء الملايين التي يقبعون تحت تصرفها ومراقبتها الدائمة.

فمستوى الاجور هو بالكاد يوفر الشي البسيط من متطلبات الحياة، وعليه لا وجود لخيارات متعددة في الاختيار والسلع كلها مبرمجة بالشكل الذي يشمل الضروري منه الى اقصى الحدود. وعليه فأن الادخارات التي تمثل ركيزة التنمية الاقتصادية ورأس المال المولد للاستثمار هو معدوم، وبالتالي لا وجود للقطاع الخاص وأن وجد فهو ضئيل يكاد يكون دوره شبه غير موجود. وهذا ماانعكس على الطبيعة الاستهلاكية للفرد، التي نجدها تبقى محصورة في توفير الضروري منها وخاصة الغذاء والملبس والسكن وبدرجات متفاوتة.

ان كل هذا يسير ضمن حسابات وخطط الاشتراكية التي تجد في ذلك ضمان عدم خروج الفرد عن طوعها في المسار الذي رسمته له. وبما أن الفرد ضمن ان ثمة في اخر الشهر له أجر يحصل عليه مع غياب التخصص والكفاءة والتطور والابداع والديناميكية في التحفيز وخلق الابتكار والاجواء المنافسة وتردي الهيكل الانتاجي تحت سقف من البيروقراطية المقيتة، تولد نوع من الخمول والكسل لدى الافراد العاملين في القطاعات الحكومية وان كان هناك حافز للعمل فهو بسبب الخوف والعقاب لا من أجل شيء أخر. وتحت حقن من الحقد والكراهية للحكومة، وُلد مجتمع فاقد للحياة وللعمل يريد التعويض من دون مبادرة وعمل، يسعى الى ان تكون الحلول كلها جاهزة له، يرفض المشاركة والتغيير بسبب الجمود الفكري والثقافي وكذلك والحرمان والمنع الذي عاشه، كل هذا عاشه الفرد العراقي في ظل الاقتصاد الاشتراكي ذو المركزية الشديدة، ولا غرابة أن نجد معدل انتاجية الفرد في العراق مثلاً منخفضة مقارنة بانتاجية الفرد الاوروبي.

بينما نجد في الجهة المقابلة كل شيء مختلف في ظل النظام الرأسمالي (اقتصاد السوق الحر)، الا ان المشكلة التي ظهرت سيما وأن الدستور العراقي يقر بأن اقتصادنا هو اقتصاد السوق الحر، في أن آلية التحول لم تدرس الظروف الاجتماعية للبلد والتي يقع على عاتقها نجاح هذا النمط الاقتصادي من دونه. فالدول التي سارت على هذا النهج الاقتصادي مضت به بشكل مرحلي وعلى خطوات متسلسلة وبالشكل الذي ينسجم وطبيعتها الاجتماعية وتطلعاتها في المستقبل.

وارتكزت في ذلك على أساسيين مهمين هما التنظيم والتخصص فضلاً عن ما هو معروف من ضخامة رؤوس الاموال الموجودة في هذه الدول نتيجة الادخارات. وهنا قد يطرح تساؤل مهم؟ هو من أي جاءت هذه الادخارات الهائلة؟! ففي العراق على الرغم مما حصل من ارتفاع في الاجور والرواتب لم نشهد تلك الموجه من الادخارات ولا الشيء البسيط منها؟

وقد يعترض البعض بالقول في أن مستويات التضخم لم تسمح بذلك او مستوى الوعي المصرفي غير مؤهل لتوليد هكذا ادخارات الذي من شأنه أن يحول الادخارات الى استثمارات ...الخ، من الاسباب. الا أنه وبصراحة هناك أسباب اخرى مهمة في اعتقادنا تمثل حجر الاساس في فشل نظام السوق الحر في العراق. من أهمها أن الطابع الاجتماعي في البلد لا ينسجم ونظام السوق الحر، ففي حين نجد حالة من التنظيم والتقنين المجتمعي في الاستهلاك الفردي، نجد هذا الشيء معدوم لدى الفرد العراقي، سيما وأن الفرد العراقي وكما هو معلوم يعمد كثيراً الى الاستهلاك المظهري الترفي المبالغ به، واصلاً يمتاز كحالة عامة بارتفاع مستوى الاستهلاك لديه. وبالتالي هذا يضيع فرصة تأمين وجود الادخار لديه سيما في ظل حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وما نقصده بمعدل استهلاك الفرد هو مقدار ما يتم انفاقه من أجل الحصول على السلع والخدمات. هذا من جانب ومن جانب يقوم الاقتصاد الحر على فكرة تنظيم الانفاق والاستخدام وتقنينها بشكل فردي وعائلي، فحتى في ظل توفر الامكانات المادية فأنه لا نجد انجراف واسراف في الانفاق من اجل الاستهلاك الحالي، بل على العكس نجد أن الفرد يجب أن يضحي بالاستهلاك الحالي من أجل المستقبل، وبالتالي فكرة التضحية في ظل مجتمع عانى من الحرمان لفترات طويلة هي شبه معدومة.

اذن نحتاج بحاجة الى مجتمع يعرف معنى تنظيم رغباته وسُلم أولوياته ويقدس فكرة التضحية فضلاً عن عمله بمبدأ التوازن في الانفاق والاستهلاك وبين حاجات الفرد. معنى ذلك ان المجتمع الذي يريد أن يتبع او يتحول لأي نظام اقتصادي أي كان، عليه أن يعلم أن الامر لا يتوقف فقط على الامكانات والثروات التي يمتلكها البلد، بل وايضاً على ما يتميز به البلد مجتمعياً من نُظم اجتماعية تتناسب وطبيعة النظام المتبع ومتطلبات هذا النظام التي يجب توفرها بين شرائح المجتمع المختلفة.

اضف تعليق