q

التلكؤ في تنظيف الفكر، يعد من العيوب المؤكَّدة في الإدارات والمجتمعات الفاشلة، فهي لا تعتني بغسل أفكارها ولا تقلع عنها أدران الجمود والعصبية الكسيحة، لهذا تبقى عرجاء حيثما تحرّكتْ، وإذا نضجت كرة التعصب، وتلقَّفت في دورانها كتل الضغينة والأحقاد، سيكون حينها من الصعب إن لم يكن من المستحيل، السيطرة على ألسنة اللهب التي تستعر في بؤر التطرف الموزعة هنا وهناك بين مكونات الجماعة الواحدة، يحدث هذا بوجه خاص في الأمم والشعوب التي تخوض حروباً من أنواع شتى، كلها من صنع الطامعين.

بالضبط مثلما يحدث اليوم في العراق، فقد انشغلت الإرادة الجمعية بما أسموه بمكافحة التطرف، ومحاصرة داعش وطرده من أرضِ ليس من حقه أن يتواجد عليها، ولكن هذا ما صار في الأمر الواقع، ففي غضون أيام قلائل، انطلقت في حزيران 2014 مجاميع متوحشة متوجّهة الى العراق غربا عبر الحدود السورية العراقية، وتحديدا باتجاه مدينة الموصل، ومع تضخم الماكنة الإعلامية والحرب النفسية، تهاوت جحافل كبيرة أمام مجاميع ذات طابع مافيوي، وسقطت قصبات ومدن كبيرة في غضون ساعات وفي أبعد الحالات خلال أيام، تسقط مدن بأكملها.

حدث هذا في الموصل ثم منها الى صلاح الدين وسامراء ومناطق من ديالى وصولا الى مشارف بغداد، كيف حدث هذا، لا يمكن للعقل البشري أن يصدّق ما جرى، ولكنه الانهيار شبه التام الذي لم يتوقف لو لا الالتفاتة العظيمة للمرجعية الرشيدة في النجف الأشرف وإطلاقها (فتوى الجهاد الكفائي) التي أعادت ميزان القوى الى وضعه الصحيح، فتم صد شراذم الإرهاب، وأوقفوا عند حدود بغداد؟؟ هل يعقل هذا، بغداد وسامراء والكاظمية وكربلاء المقدسيتين كلها تتحشد على مشارفها مجاميع داعش؟، كيف حصل هذا في ليلة وضحاها، وما هي أسباب هذا الانهيار الغريب؟.

بالطبع هي الحرب الدعائية الضخمة عبر وسائل التواصل كالفيس بوك وتويتر وسواهما، مع تجنيد جيوش من الألكترونيين الذين قاموا بواجبهم الدعائي في شن حرب نفسية كبرى ضد القوات العراقية التي فقدت إرادة القتال بشكل كلي، ولكن ما أن تم التنبّه الى ما يجري وتم صد سيل الإرهاب المتدفق نحو المدن العراقية، بعد فتوى الجهاد، تم كسر هاجس الخوف، وتم إيقاف تقدم مجاميع الإرهاب المنظّم لداعش، وتم إطلاق الهجوم المضاد لتبدأ مراحل التحرير المتتالية، ولكن بعد صراع مرير في ساحات القتال، أبلى فيها مقاتلو الحشد الشعبي وثوار الفتوى والمقاتلون العراقيون في التشكيلات المختلفة البلاء الحسن، وتم وقف تدفق الإرهاب.

وهكذا بدأت مسيرة الحرب العكسية وإن كانت المسافة الزمنية طويلة، لكن بدأت جحافل العراق تستعيد تنظيمها وقوتها وتضع الخطط الحربية الصحيحة لاجتثاث الإرهاب، وهذا ما حصل بالضبط، مع حصول حالات كر وفر وقتال ضارٍ سجلته ذاكرة المعارك بأنصع الصور وأدق اللقطات، وأسهم الإعلام الواعي في تحقيق النتائج الجيدة، وتم تشغيل الفكر السليم، وخاصة في مجال الدعم النفسي والمعنوي للمقاتلين، فصار المقاتل العراقي كالأسد المغوار، وباتت مجاميع الإرهاب تفرّ مذعورة كالفئران أمام القبضة الحديدة للقوات العراقية.

وبات النصر يتحقق لحظة بعد أخرى ويوم بعد آخر وخطة بعد أخرى، وأسهمت الحملات الإعلامية والثقافية والفكرية الكبيرة في دعم التشكيلات العراقية المقاتلة التي طاردت الإرهاب وأرغمت مجاميعه اليائسة على ترك ما دنسته أياديهم من أراض عراقية غالية على العراقيين، واشتغلت دوائر الفكر المتوقد على أفضل حال، في موازاة النتائج الباهرة لجحافل وتشكيلات القوات المقاتلة، وما أعظم النتائج عندما يتم ذلك الاتحاد والانسجام بين إرادة القتال الفعلية وبين الحرب النفسية المضادة، حيث بات المقاتل العراق أشد عزيمة وقوة ورباطة جأش، فيما ضعفت مجاميع داعش الى أدنى الحدود.

حتى بلغ العراقيون يوم النصر الكبير بتحرير الموصل بعد تحرير الأنبار وديالى وصلاح الدين، ثم طوز خرماتو وسواها من القرى والمدن التي بلغت المئات، حتى صرح القائد العام للقوات المسلحة العراقية حيدر العبادي، أننا سنعلن العراق خاليا من داعش والإرهاب، والمعني بهذا التصريح طرد داعش كأفراد ومجاميع للمقاتلين القادمين من أصقاع الدنيا، وقد تم دحرهم بالفعل، ولكن ماذا عن حملات التنظيف الفكري التي ينبغي أن تقتلع جذور الإرهاب النفسي ومخلّفاته التي لم ترحل كما رحل أفراد داعش، وماذا عن تهيئة عوامل الاستقرار بعد الحرب.

نعم هنالك أطفال يعيشون اليوم بيننا ومراهقون عاشوا في أحضان داعش ودرسوا في مدارسهم، وتشبعت قلوبهم بصور الإرهاب في المناهج الدراسية وسواها من الفعاليات الفكرية والتثقيفية التي كان يقوم بهاد اعش وهو يجند الأطفال والمراهقين والشباب، واليوم بعد أن تم طرد داعش كأفراد ومقاتلين، وعادت الأرض الى أهلها العراقيين، ألا يتطلّب الالتفات الى هذه التركة الفكرية الثقيلة، خصوصا أنها تركة إرهابية قد تحتاج الى وقت وجهود كبرى ومنظمة لاقتلاعها ممن تربّى في مدارس داعش وتغذى على أساليبه الماكرة؟.

إن من أهم عوامل الاستقرار بعد الحروب، هي المباشرة بالشروع في حملات تنظيف فكري، بعد صفحة التحرير والقتال الفعلي في ساحات القتال، وبعد أن تم طرد داعش وتنظيماته الإرهابية كلها، وعلى العراقيين اليوم أن يضعوا الخطط الصحيحة لاجتثاث الإرهاب الفكري الداعشي الذي لا يزال يعشش في عقول وقلوب الآلاف من الأطفال والمراهقين من الذين تم إدخالهم في مدارس التنظيم الإرهاب وتم تعبئتهم بالفكر المتطرف، الذي ينبغي من هذه اللحظة، المباشرة بوضع خطط علمية لكيفية نزعه هذا من العقول والرؤوس التي تعيش بيننا بخير وأمن وسلام.

اضف تعليق