q

إن الأمم الحية تركز أولا على البناء المعرفي للفرد، فهي تنظر الى الطاقة البشرية، فكرا ومادة، وما يبديه هذا الإنسان من قدرة على التفكير والعمل، هو الرأسمال الأهم للدولة، وقد جاء في تعريف هذا المصطلح، ان رأس المال المعرفي يقصد به المعرفة الجماعية أو الضمنية، مثل الخبرات الشخصية التي قد لا تكون موثقة ولكنها مختزنة في عقول الأفراد العاملين في مؤسسة ما أو منظمة أو مجتمع، وبهذا ليس المال وحده سواء كان منقولا أو ثابتا هو وحده يشكل موردا للدولة، فالخبرات والعقل والمعرفة هي رأس المال الأهم .

أما نحن أمة المسلمين، فإننا نمتلك أكبر كنز معرفي في تاريخ البشرية، متمثلا بما أنتجه الفكر الحسيني لنا حتى بات تركة فكرية للمسلمين والشيعة منهم بخاصة والإنسان في أية بقعة من المعمورة، ولكن هذا الكنز المعرفي لابد من وسط مثقف يستثمره بالطريقة المثلى، فالمثقف ينطوي على فكر عميق وعقلية موسوعية منفتحة، أو هكذا يُفترَض أن يكون، حتى تغدو مهمته الأولى هي اكتناز الفكر الحسيني الخالد وإيصال محتواه الى الآخرين، ويعد هذا الدور من الأدوار المهمة جدا، علاوة على أننا بحاجة الى تسويق الفكر الحسيني في أوسع الآماد والمسافات على المستوى العالمي.

إن المختصين بالحقول المعرفية أكدوا على أهمية هذا النوع من رؤوس الأموال التي لا علاقة لها بالنقد المالي، وإنما لها علاقة بالمعرفة Knowledge التي أصبحت بحسب المختصين المفتاح الأساسي لتطور إقتصادات الدول وكذلك للمنظمات سواء كانت ذات إنتاج سلعي أو خدمي كما أن عملية إدارة المعرفة وبما تتضمنه من تخطيط على المديات المختلفة وما تتطلبه من تنظيم ورقابة وتوجيه تعتبر حاسمة في بناء رأس المال المعرفي وتنميته والاستفادة مما يتولد منه من إبداع، في المجالات المختلفة وخصوصا الفكرية والمعرفية منها، وتنمية قدرات الأفراد على التعاطي معها، وقطعا أن التركيز الذي يصب على أولويات الهدف المعرفي للفكر الحسيني، يعود الى أهمية هذا النوع من رؤوس الأموال.

فما فائدة الأموال النقدية بغياب عقول لا تستطيع أن تديرها، وهناك بلدان تغص بالثروات لكن شعوبها تعاني الفقر لأن إدارة هذه الأموال فاشلة، ولو أن رأس المال المعرفي متوفر في هذه (البلدان الغنية الفقيرة)، لما خسرت ثرواتها وبعثرها كالهباء في ريح عاصف، وهذا يثبت قطعيا حاجة الأمة الى تنمية رأس المال المعرفي وتطويره، كونه هو السبيل الذي يقود الى حماية رؤوس الأموال الفعلية للدولة ومواردها المتنوعة، ولغرض تنمية هذا النوع من رؤوس الأموال، سيظهر هنا بقوة دور المثقف، فهو الرأس المناسب القادر على أن يكون وسيطا بين بسطاء الناس وبين استيعاب الفكر الحسيني الذي سيضاعف قطعا من رأس المال المعرفي والفكري والثقافي وحتى التربوي والديني لأفراد الأمة، والسبب يعود لفهمه لأزمات المسلمين ولسعة مداركه قياسا بالآخرين.

في قول للإمام الشيرازي مناسب جدا لما طرحناه هنا، يقول الإمام: (ينبغي للمثقفين والواعين فهم الأزمات التي تحيط بالمجتمع الإسلامي، ليتمكنوا من تزويده بالثقافات والرؤى الأكثر شمولية، ومن توسيع مداركه نحو المستوى الأفضل./ المصدر: كتاب ثقافة عاشوراء للإمام الشيرازي).

أمتنا إذاً ينقصها رأس مال المعرفة، ليس بشكل تام، ولكن بنسبة معينة، تدعونا الى التركيز على الفكر الحسيني، بخاصة في مناسبات (محرم) والعاشر منه في ذكرى استشهاد الحسين (ع)، والجموع الغفيرة التي تتركز في مدينة كربلاء، ودمجها بالطقوس وزج الفكر والمعرفة في ندوات ومحاضرات للجموع الغفيرة، وتنمية الكنز المعرفي في ذوات الناس، أملا في مضاعفة رأس المال المعرفي عن سبيل الفكر الأقرب الى الناس وهو المعرفة العقائدية التي يقبل عليها الجمهور كالمتعطش الظامئ، بالأخص أن الجملة الذهبية التي قالها الإمام الحسين يوم خروجه من الحجاز، لا تزال تلمع في رؤوس الناس وهي بأمس الحاجة لفهم فحواها.

يقول الحسين (عليه السلام): (إنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي محمد، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، أسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب).

إذا فهمت الجماهير الغفيرة من الزوار ما قصده الإمام الحسين، سوف يتولّد للأمة كنز معرفي لا يمكن تقدير بثمن، بالأخص أن ثمة ربط واضح بين دور المثقف من جهة، وبين قدرة المجتمع على الاستفادة من الفكر التنويري لنهضة الإمام الحسين عليه السلام، فالبسطاء من الناس قد لا يعون جوهر هذا الفكر، وربما يبقون ضمن الطابع الشكلي الذي لا يكفي وحده للانتقال بهم الى الوعي الأوسع لعمق الكنز المعرفي الحسيني، وهو ما يمثل رأس المال الأهم، وهو يضاهي رأس المال البشري للأمم، فالأمة الكبيرة بشريا هيبتها أكبر بالطبع.

غير أن المسلمين تخلوا عن كنوزهم المعرفية، أو أهملوها، أو تعاملوا معها باهتمام ضعيف، في الوقت الذي ركزت الأمم الأخرى على هذا النوع من رؤوس الأموال، ففازت بما فازت به وبما حصلت عليه من كنوز خسرناها لأننا أهملنا رأس المال الفكري والمعرفي، وهذا ما أدى الى ضعفنا، وتطاول الأمم علينا، والسبب بالطبع هو إهمال المسلمين، وانشغالهم بما لا ينبغي ولا يستحق الانشغال.

نذكر بقول آخر للامام الشيرازي يسند ما ذكرنا في أعلاه: (لقد نام المسلمون طويلاً طويلاً حتى قسّمت بلادهم، ونهبت أموالهم، وهتكت أعراضهم، وأريقت دماؤهم./ المصدر السابق).

وتلوح في الأفق مشكلة أخرى أكبر وأكثر تعقيدا، ففقدان المعرفة تعني فقدان القيم، وهذا يشكل دخولا في الجهل والمجهول، وهل رأى أحدكم أن أمة تفقد منظومة قيمها التربوية والمعرفية، يمكنها أن تجد لها مكانة بين الأمم؟.

(إن المجتمع بفقده للقيم ومنظومة المعايير، يصبح أفراده متنابذين ـ متفرقين ـ متأزمين، فتضمحل طاقاتهم، وتتردى فيهم روح المحاورة وحرية التعبير، فيلتمسون فضول الحطام ويتنافسون على السلطان، فلا يأمن فيهم مظلوم/ مصدر سابق).

وقد حدث شيء من هذا إبان أنظمة الانقلابات العسكرية، فقد حطمت هذه الحكومات رؤوس الأموال المعرفية والفكرية وأطاحت بالقيم التربوية والدينية، وسامت الأمة أصناف العذاب والآلام والحرمان والقهر، ولجأت هذه الأنظمة الى طمس الثقافة وقتل المعرفة، وتمكين الثقافات الأخرى كي تجهز على ثقافتنا، في غياب رأس المال المعرفي، خصوصا ما يتعلق بمحاربة الفكر الحسيني الذي حدث إبان تلك الأنظمة المقبورة.

ومما يجعلنا نتذكر ذلك بألم قول الإمام الشيرازي: (قد يجد المجتمع مرتعاً ـ في حال غياب القيم ـ في أحضان ثقافات ونظم فكرية تدّعي الأمانة والتحرر في خطابها الحضاري المزعوم، فيعلق آماله عليها بدلاً من أن يعمل على إزالة الغبار المتراكم على حضارته وماضيه المشرف/ مصدر سابق).

اضف تعليق