q

أن يتحول ظهر جندي الى سلّم تنزل منه امرأة موصلية من شاحنة تقلّها مع أخريات من النازحات خلال فترة الحرب على داعش، فهذا يمثل مشهداً انسانياً باهراً وغير مسبوق في المعارك بأي مكان في العالم، انه ابتكار لتقديم أقصى ما تجود به النفس لمساعدة تلكم النسوة و إنقاذهنّ من آثار الحرب، بيد ان الدوافع الكامنة في نفس هذا الجندي وغيره ممن فعلوا الشيء نفسه في اماكن اخرى، لها امتداد تاريخي عميق يصل الى صدر الاسلام، وتحديداً عند شخص النبي الأكرم، صل الله عليه وآله، ومن بعده الامام علي، والأئمة من بعده، عليهم السلام، قابلوا الاساءة والاستفزاز والعداوة والبغضاء، بالحلم والعفو، فجسدوا مبدأ "العفو عند المقدرة" في ظروف مختلفة.

ان رؤية المجتمع الاسلامي في صدر الاسلام الى أهل البيت، عليهم السلام، لم تكن متبلورة بشكل كامل، فلم يكونوا كما يعتقد بهم انسان اليوم، إنما كانت هنالك رموز وقوى اخرى مهيمنة وفارضة نفسها للطاعة، لذا لم يكن الأئمة المعصومون، وحتى النبي الأكرم، في عيون الغالبية العظمى من الناس، سوى اشخاص صالحين، يتميزون عن الآخرين بطيب القلب وصفاء النفس، رغم المعاجز والمواقف والاعمال العظيمة في شتى مجالات الحياة، رغم أن هذه الاعمال والمواقف الكبيرة ذات التأثير المباشر على حياة الناس، كانت مقرونة بأعمال ومواقف من نوع آخر، فهي ليس فقط أنقذت حياة المسلمين والامة بتلك الضربة الخالدة يوم الخندق، ولم تنقذ جنود الحر التابعين للجيش الأموي من الظمأ بسقيهم الماء، هم وخيولهم ايضاً، ولم تحفظ فتيات المدينة المنورة من حملة الاستباحة المشؤومة تاريخياً، ولم تفتق جدار العلوم وتؤسس لأول مرة في التاريخ، جامعة متكاملة تخرج مئات العلماء في شتى الميادين والحقول، بيد أنه على المدى البعيد تركت تلك المواقف والاعمال العظيمة بالغ التأثير على حياة الامة وحضارتها، لانها أحيت الحب والايمان في النفوس على مر الاجيال والعصور، وهذا حصل بفضل بقاء سيف علي البتار في الحروب، في غمده خلال تعامله مع معارضيه، والامام الحسين، في مواعظه لجيش عمر ابن سعد و رثائه لحالهم وعاقبتهم، ودعاء الامام السجّاد لأهل الثغور من جنود الدولة الاسلامية التي لم يحكمها قط، فكانت النتيجة بلورة تلك الرؤية والوصول الى الحقيقة، منذ تلك الايام وحتى يومنا هذا، ليس فقط المسلمون من عرفوا الحقيقة، بل حتى غير المسلمين ايضاً.

وعندما نتحدث عن اهمية الانتصار العسكري على تنظيم داعش في الموصل وإلحاق الهزيمة به في معظم المناطق العراقية، فنحن نتحدث عن الابعاد الواسعة لهذا الانتصار، وانه ليس فقط انتصاراً عسكرياً، إنما انتصاراً للحقيقة والقيم، فالمعارك التي دارت رحاها طيلة السنوات الثلاث الماضية في المناطق التي احتلها داعش، كانت ضمن الازمة الطائفية والاجتماعية التي مر بها العراق طيلة الفترة الماضية، بمعنى أن الحشد الشعبي وجهاز مكافحة الارهاب والشرطة الاتحادية، لم يحرروا مناطق شيعية احتلها داعش عنوة، إنما جاء تحت شعار "نصرة اخواننا السنة"، فأي نوع من المساعدة يقوم بها القوات الامنية لانقاذ النساء والاطفال والجرحى وغيرها، يخرج عن مهامهم العسكرية ويدخل ضمن النشاط الانساني المفترض وجوده في الساحة من قبل مؤسسات ومراكز نراها منتشرة في الاردن ومصر والخليج وتركيا تنادي بما تدعيه "حقوق السنّة" او ما يتعرض له المدنيون في مناطق القتال للتشريد والقتل وغيرها من التحديات.

واذا كان للبعد العسكري والسياسي تأثيره على سمعة العراق وقواه المسلحة وتحديداً الحشد الشعبي خلال الفترة الراهنة، فان للبعد الانساني و الاخلاقي تأثيره على المدى البعيد (ستراتيجياً)، وذلك من خلال رصد عدة نقاط:

أولاً: إبعاد المعركة عن الصراع الطائفي المعد له سياسياً واعلامياً ومالياً و مخابراتياً من جهات عربية ودولية، فمنذ عام 2006 حيث اندلعت أعمال العنف الدامية في العراق، كانت الساحة مفتوحة أمام هذه الجهات للشحن الطائفي البغيض بالتضليل والتزوير وتغييب الحقائق، حتى جاءت فتوى الجهاد الكفائي لتلد حشداً شعبياً ينطلق في دوافعه للقتال من الايمان والاخلاق والغيرة على الارض والعرض قبل التفكير بالنصر على العدو.

ثانياً: إظهار حقيقة التشيع الى أصغر فرد في المجتمع السنّي بالعراق ثم للرأي العام العربي والاسلامي، وأن القيم والمبادئ هي الضابطة للسلوك والمواقف مهما كانت الظروف قاسية، ولو أن هذا تبين بعض الشيء خلال استقبال العوائل النازحة من الفلوجة الى كربلاء المقدسة في الفترة التي سبقت الاجتياج الداعشي عام 2014، وأن التشفّي والانتقام الجماعي والتنكيل ليس من أخلاق مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، التي تمثل كامل المنظومة الاخلاقية في الاسلام.

ثالياً: الحفاظ على التضحيات وسجل المظلومية الشيعية منذ ثلاثة عقود في ظل نظام صدام، وبعدها في ظل الارهاب التكفيري المتمخض من فلول ذلك النظام مدعوماً من جهات اقليمية ودولية.

فقد بات واضحاً حجم الجهد المبذول لتغييب أرقام المقابر الجماعية من معتقلات صدام في الثمانينات، والاعدامات الجماعية بعد قمع الانتفاضة عام 1991، وغيرها من الجرائم البشعة ضد ابناء المجتمع الشيعي لا لذنب ارتكبوه إلا أن نطقوا بالهوية والرأي والانتماء فقط، فجاء اليوم الذي نسمع في بعض وسائل الاعلام، بأن ما عدد ضحايا "الارهاب" بعد سقوط الطاغية صدام، اكثر بكثير من ضحايا صدام نفسه!

ولو يتسنّى للجثث ان تتكلم ليتضح السبب في ذبح الشيعة في مثلث الموت شمال محافظة بابل، وفي المناطق الاخرى، وما قبله من الاعدامات والانتهاكات البشعة في سجون صدام، كما يتضح السبب في سقوط القتلى من المدنيين خلال تطهير مناطقهم من تواجد الجماعات الارهابية طيلة السنوات الماضية، منذ ظهور "القاعدة" ثم اضمحلالها، وظهور "داعش".

وكلما كان زاد التعويل على ستراتيجية الاخلاق في ميدان المعركة، كلما كسبنا معارك أخرى تواجهنا في قادم الأيام، فالحرب ليست كل شيء، إنها نقطة انفجارية لحالة من الاحتقان والتوتر، ثم تخبو وتنتهي إن عاجلاً أم آجلاً، وتبدأ المعركة في ميدان الثقافة والفكر والاقتصاد والسياسة.

ولا ننسى أن الحشد الشعبي، اضافة الى تجاربه العسكرية وسمعته الطيبة بشكل عام في العالم، فانه ايضاً يشكل عمق ستراتيجي للمجتمع والامة التي سيكون ابناؤها جنوداً لهذه المعركة القادمة والواسعة الابعاد أمام القوى المعادية التي تكيد ليس فقط للتشيع وإنما للإسلام بشكل عام، فلابد من أدوات فاعلة ومؤثرة لتحقيق الانتصار.

اضف تعليق