q

التعريف الغامض للمصطلح قد يؤدي إلى فقدان التوازن المثالي للسان المبين، وهذا من الأمور التي تثير الغرابة لدى العارفين بهذا المقام إذا ما علمنا يقيناً أن النهج الجزافي المتبع عنوة في هذا العصر لا يزال يلقي بظلاله على المفاهيم التطبيقية من أجل أن يباعد بينها وبين الأسس الموضوعة لها، بمعنى أن اجتياز البنى اللغوية يجعل القول السديد يأخذ بالانحدار إلى الدركات السفلى وبالتالي يتلاشى بريقه شيئاً فشيئاً وههنا تكون النهاية قد كتبت بأيدي من كان يظن أنه المخلص الفعلي للملكات اللسانية.

وتعليلاً لذلك نرى أن كثيراً من المصطلحات قد صدفت عن رسم الصور البيانية التي تعمل على تغطية الألفاظ المقررة للمعاني، ومن الأمثلة على ما نحن بصدده مصطلح الإمامة الذي أشكل على جم غفير من العاملين في مقامات العلوم الشرعية، كون المصطلح يرمز للتبعية المكملة للنبوة، ولذلك ذهب بعض المحققين من أهل العلم إلى أن الإمامة هي الزعامة أي الرئاسة العامة وما يتفرع منها على خلافة الأمة سواء تم ذلك بالإجماع أو عن طريق آخر، وأنت خبير بأن الطريق الآخر الذي التزموه لم يكن مستنداً إلى نص يثبت دلالته الشرعية، وبطبيعة الحال فإن الذين ذهبوا إلى هذا الاتجاه لا يهمهم الارتقاء بالزعامة بقدر ما كان مرادهم هو التخلص من التقارب الحاصل بين المنزلتين.

وبناء على ما ذكرنا يكون هذا المنحى هو أقصر الطرق التي تؤدي إلى الحلول الصحيحة حسب اعتقاد الأعلام الذين أشرنا إليهم، وعند الرجوع إلى متفرقات القرآن الكريم الخاصة بالإمامة نلاحظ أنها فعلاً تعني الزعامة ولكن ليست الزعامة السياسية وإنما الزعامة الدينية، وإن كانت بعض مصاديق الكبرى لا تخرج عن هذا المعنى عند التطبيق الملازم للأسوة الحسنة التي لا تتخلف في سلوكياتها المستمدة أمرها من أمر الله تعالى.

وعند الأخذ بهذا الوجه نصل إلى معرفة الحقائق التي تتجسد معطياتها في التطابق التام بين الأصل والتبع، بمعنى أن الإمام يكون بمنزلة الوسيط بين الحق سبحانه وبين المأموم، وهذه المكانة لا تتأتى لجميع الصلحاء من الناس وإنما تكون مصاديقها متمثلة في أولئك الذين نالتهم مرتبة الأمر الإلهي، وقد يعزز هذا المعنى بمجموعة من الآيات كقوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة 24. وكذا قوله: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) الأنبياء 73.

وتأسيساً على ما قدمنا يظهر أن الإمامة بمفهومها العام تتضمن معنى الزعامة الروحية المؤيدة بالرسالة الإلهية وإن شئت فقل الزعامة المكملة للتأييد الروحي الذي أرسل به الأنبياء، وبهذه النتيجة تكون الكبرى قد استقلت بمعنى الطريق الموصل إلى النهاية دون انقطاع مهما اختلفت المناسبات كون الزعامة البشرية لا تخرج عن الأمر الإلهي كما قدمنا وكما أشارت إلى ذلك الآيات التي ذكرناها بهذا الصدد.

ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وإنهما لبإمام مبين) الحجر 79. أي إن آثار قرى قوم لوط والأيكة لبإمام مبين أي طريق واضح وقاصد لا ينقطع سبيله سواء في المشاهدة المادية أو الاعتبار المعنوي، ونظراً لهذا التجانس نلاحظ أن المصطلح لا يزال يعطي نفس المعنى في جميع السياقات التي ورد فيها وإن اختلفت المصاديق كما في قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة) هود 17. ولا يخفى أن الكتاب يصل بأتباعه إلى السبيل المقصود.

فإن قيل: ما وجه الجمع بين ما تقدم وبين قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) القصص 41. وقريب من هذا المعنى ما ورد في الآية 12. من سورة التوبة؟ أقول: المصطلح يعطي نفس المعنى الذي يشير إلى الطريق القاصد، كون المراد من الاقتداء هو الوصول إلى النتيجة على الرغم من اختلاف السبل، ولذلك عبر القرآن الكريم بالإمام بناء على اتحاد النتائج دون التفريق بين المفهوم العام وما يتفرع عنه من مصاديق ولهذا تم الحفاظ على الأصل المراد من المسمى، ويشهد لما نحن فيه قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) يس 12. أي الإمام الذي أحصى سبحانه فيه علم كل شيء، وبهذا تظهر النكتة في قوله جل شأنه: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) الإسراء 71. وسيتضح المعنى المراد من الإمامة التي جعلها الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) في المساحة المخصصة لتفسير آية البحث.

تفسير آية البحث:

قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) البقرة 124. هذا هو الموضع الأول في القرآن الكريم الذي يذكر فيه إبراهيم، والشروع ههنا بذكره فيه تمهيد لبيان التشريع الأهم في حياة المسلمين، سواء ما سيتضح من أمر القبلة أو بناء البيت أو ما يختص ببعض الفقرات الأساسية في مسيرة إبراهيم الخاصة وهذه جميعها لا تخلو من غايات جامعة للمسلمين وأهل الكتاب على حد سواء، ولا يخفى أن المهمة التي كلف بها إبراهيم لا تعطى جزافاً إلا لمن أتم الشروط واجتاز الاختبار كما سيمر عليك، هذا من جهة ومن جهة أخرى نلاحظ أن لذكر إبراهيم في هذا الموضع أسباباً أخرى من بينها العطف البياني على ما تطرق إليه الحق سبحانه من القصص المثيرة التي تحدثت عن بني إسرائيل، من أجل أن يكون في ذكره ما يدفعهم إلى الاقتداء به ونبذ العداء المرافق لنفوسهم المريضة.

وبهذا يكون الادعاء الذي ناشدوا به المسلمين قد أخذ مجراه المناسب لتحقيق غاياته إن كان في قلوبهم ما يرمز للصدق الذي يجأرون به في كل مرة، أما بخلاف هذا الاتجاه فإن السرد قد يأخذ منحى آخر لا يخرج عن معنى التوبيخ أو التعريض، بتعبير آخر كأن الحق يقول لهم إن كانت لكم روابط نسبية بإبراهيم فما هو المانع الذي يحول دون تفعيل تلك الروابط، ولا يخفى أن لهذا التعريض مساحة كبيرة في كتاب الله تعالى كون الوصف المثالي لإبراهيم لا يتطابق مع الأغراض الباطلة التي كان اليهود يروجون لها.

قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) من آية البحث. الابتلاء هو الاختبار الذي أشار إليه تعالى من خلال المراحل التي اجتازها إبراهيم بنجاح والآية لم تشر إلى معنى الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، ولكن المواضع الأخرى في القرآن الكريم تبين أن هذه الكلمات لا تخرج عن المهام الملقاة على عاتقه والتي تعرض بسببها لأقسى أنواع العذاب النفسي، ومن بين تلك المهام:

أولاً: الإلقاء في النار التي أنجاه تعالى منها بأن جعلها عليه برداً وسلاماً.

ثانياً: تحطيم الأصنام التي كانت عبادتها سائدة في عصره.

ثالثاً: إسكان ذريته بواد غير ذي زرع.

رابعاً: استعداده التام لذبح ابنه إسماعيل.

والقضية الرابعة من أكثر المهام وضوحاً، كون البلاء ورد في تفصيلها بصورة لا تقبل اللبس وذلك في قوله تعالى: (فبشرناه بغلام حليم... فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) الصافات 101- 102. وقبل ختام الموقف قال سبحانه: (إن هذا لهو البلاء المبين) الصافات 106. وفي هذا التفسير ما يحقق المراد دون الخوض في الآراء التي لم نجد ما يبرر صحتها.

ثم بعد ذلك أشارت الآية إلى المقام الرفيع الذي ناله إبراهيم (عليه السلام) بسبب إتمام الكلمات التي ابتلي بها وهو مقام الإمامة، كما في قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً) من آية البحث. والمراد من الإمامة ههنا (الولاية الدينية) وليست الولاية السياسية، كما بينا ذلك من خلال حديثنا قبل الشروع في تفسير آية البحث، ولهذا أراد إبراهيم أن تمتد تلك الإمامة في ذريته، إلا أنه خلص إلى إجابة الحق سبحانه بأن هذا المقام الرفيع لا يتأتى لجميع الذرية بل يعطى لمن كان لديه الاستعداد كما حصل لإبراهيم نفسه، كون الظلم يرافق الذرية سواء في أول حياتهم أو في آخرها أو في أي فترة منها، ولا يستثنى من هؤلاء أو أولئك إلا من رحم الله، ولذلك ختم سبحانه المقام بقوله: (قال لا ينال عهدي الظالمين) من آية البحث. حيث أنزل العهد منزلة الفاعل فتأمل ذلك بلطف.

* من كتابي: السلطان في تفسير القرآن

اضف تعليق