q

في الحروب تضع الجيوش المتحاربة خططاً عملاقة لخوض حرب مجاورة، تسمى الحرب النفسية، أو حرب المعنويات، يصفها الخبراء العسكريون بأنها بيضة القبان في حسم المعارك، فالجيش الذي لا يربح حرب المعنويات، لا يمكن أن يكسب الحرب حتى لو كان أقوى من الطرف الآخر عدةً ويفوقه عددا، ذلك أن الجانب المعنوي يمكن أن يزيد من زخم المعارك لصالح من يتحلى بها، على حين أن من يفقد التوازن المعنوي، فإنه في طريقه الى الهزيمة لا محالة، فهزيمة النفس لا تظهر ماديا كهزيمة الجسد ولكنها تشترك في نصف الهزيمة.

بالنتيجة نحنُ ملزمون بتأكيد حالة من التوفيق بين الجهوزية المادية من ناحية، وفاعلية الاستقرار والتوازن المعنوي من ناحية أخرى، فلا نتائج مادية جيدة إذا خسرنا الجانب المعنوي، والنقيض يصح أيضا، حتى يكاد الجانبان أن يكمّلا بعضهما بعضا، فالجيوش الكبيرة تركز على التوازن المعنوي، وفي أي نوع من أنواع الصراع لا مفر من هذا الاشتراط، حتى في سياق المشكلات بأحجامها وأنواعها الأدنى.

في وصف دقيق عن هذا الأمر ينظر سماحة السيد صادق الشيرازي له بمنظار أكثر غورا وتفحّصا، فالواقع أن كثيرا من الدلائل تؤكد (أهميّة التوازن في الأمور التكوينية، وهذا ما يلمسه عامّة الناس عادة ويدركونه بسهولة. فكذلك التوازن مطلوب في النفس وباقي الأمور المعنوية، بل هو أهمّ، لأنّ فقدان التوازن في المادّيات قد يؤدّي إلى تلف الأبدان، أمّا في المعنويات فيؤدّي إلى تلف النفوس/ المصدر كتاب حلية الصالحين لسماحة المرجع الشيرازي).

وما أضعف الإنسان عندما يفقد نفسه، لأن فقدان الجسد أو جانبا منه ربما لا يضعف النفس، لكن حصول العكس، أي عندما يفقد الإنسان التوازن المعنوي، فإنه يشعر بالهشاشة ويمضي الى الضمور والانزواء، فيفقد الكثير من حيويته، هذا إذا لم يفقد إحساسه بالحياة كعنصر من عناصر الاستمرارية للوجود كله، وهكذا هو الحال دائما، لا يمكن أن نهمل جانب ونتمسك بآخر، فالقوة المادية وحدها لا تكفي كي يسمو الإنسان ويحلق في فضاء النجاحات المضمونة، فهو في هذه الحال كالطائر الذي يسعى الى مرامه بجناح واحد، لا يمكن أن يصل، لأن جناحه المعنوي ليس متوافرا، وبهذا يفقد القدرة على الطيران والاستمرارية.

كذلك الإنسان حين يسعى الى أهدافه، فردا أو جماعات، لا يمكنه الوصول ما لم يكن هنالك التوافق والتعاون بين المادي والمعنوي، على أننا نفهم ونؤمن ونشاهد بأم أعيننا عندما تفقد الأشياء توازنها يختل وجوده بالكامل، كذا هو الحال بالنسبة للكائن البشري، فهو في حالة فقدانه لتوازنه المعنوي، هذا ينعكس مباشرة على توازنه المادي والفكري والسلوكي أيضا، فيصبح إنسانا مشلول الحركة والفعل والتفكير أيضا.

إذاً فالمرتكز المعنوي لا يمكن غض البصر والبصيرة عنه، فهو بمكانة الجناح الآخر للطائر، واليد الأخرى للإنسان، والعين الثانية للكائن الحي، فكل شيء ناقص بدون فاعلية وحضور النسق المعنوي، وهذا ما نطلع عليه في مضمون الكلمة المقتبسة من رأي السيد المرجع الديني صادق الشيرازي فإن (التوازن في النفس مهمّ جدّاً، كما هو مهمّ في كلّ شيء؛ وكما أنّ أدنى اختلال في توازن الأشياء قد يؤدّي إلى تحطّمها أو خرابها، فكذلك الحال مع النفس).

يحدث دائما أن يتعثر الإنسان في سيره نحو أهدافه، قد ينجح في جمع النقود، ويربح في مشاريع تدر عليه أموالا، لكنه يحس نفسه ضعيفا، بعضهم لا تنقذه الفلوس، ولا تنتشله من واقع الخلل النفسي الذي يسوّر كينونته ويحاصر حياته بالأسئلة التي لا يجد أجوبة لها، فنفس الانسان حساسة قلقة تبحث عن الأمان والاستقرار، قد يأخذها مشوار حصد الأموال بعيدا عن مرفأ الروحانيات، وربما ينغمر في الملذات المادية، إلا أنه يبقى متعطشا لذلك التوازن المفقود بين المادي من ناحية والروحي المعنوي من ناحية أخرى.

إن النفس لها مجسات كتلك التي تُقاس بها الذبذبات أو الترددات في الفضاء الفيزيائي، هذا التأثر السريع ينعكس مباشرة على العاكسة الأولى للإنسان، ونقصد بها مطلعهُ أو وجهه، فالحزن والفرح والقنوط وسوى ذلك من مشاعر، كلها تظهر في ملامح وجه الانسان، وهي وليدة ما تتعرض له النفس من أحزان أو أفراح، قد يُصدم الإنسان فرحا أو حزنا، وربما يفقد توازنه، السبب دائما هو ذلك الاختلال الذي يحدثه تدهور التوازن المعنوي مع المادي.

مثل هذا المعنى الذي ذهبنا إليه نجده في رأي جميل وعميق للسيد صادق الشيرازي يرى فيه بأن النفس الإنسانية دقيقة جدّاً وسريعة التأثر إلى درجة كبيرة، فهي كالنابض الذي يهبط لأدنى ضغط ويرتفع بارتفاعه بسرعة. مثاله: لو تبسّمتَ في وجه شخصٍ ما، فسوف تنبسط أساريره ويتعامل معك باتّزان، ثمّ لو عبّست في وجهه بعد ذلك، تراه يفقد وعيه ويختلّ توازنه ولا تعود معاملته لك كما كانت آنفاً، ولا يعذرك أو يحتمل وجود سبب ما لعبوسك.

نخلص من ذلك الى نتيجة مؤدّاها، أولوية توافر الحافز المعنوي بموازاة المضمَر والظاهر من المادي، لتنشئة ركيزة الاستقرار التي يحتاجها الفرد والجماعة، نقطة شروع للانطلاق منها الى مآرب يرنو إليها الإنسان، كأنها مصدر الوجود، وهي كذلك بالنسبة له، كونها تقدم ذلك التوازن المعنوي الأكثر أهمية لديمومة الاستقرار في أعماق الإنسان، لشعوره بتوافر العنصر المادي وفاعلية العنصر المعنوي وهذا يؤهله كعنصر لإنساني مستقر فاعل ومنتِج بعيدا عن قلق القطب الواحد، كون المادة وحدها لا يمكن أن تصنع إنسانا يُشار له بالبنان.

اضف تعليق