q

كريستيان جاريت / صحفي علمي

 

ربما تكمن "النرجسية"، وهي سمة متعلقة بشخصية الإنسان ولا يُعرف عنها الكثير، وراء التغيرات السياسية الهائلة التي تعصف بالعديد من الدول في مختلف أنحاء العالم، ما هو شعورك حيال وطنك؟ وهل ينتابك الغضب عندما ينتقده آخرون؟ هل تشعر بأن العالم كان سيصبح بقعة أفضل إذا ما كانت بلادك لها دور أكبر؟ هل تتمنى أن تبادر الدول الأخرى بالإقرار لوطنك بالنفوذ والهيمنة؟.

إذا كانت ردودك على الأسئلة السابقة بالإيجاب؛ فإن ذلك يُظهر مؤشرات على اتصافك بـ"النرجسية الجماعية" على صعيد علاقتك بوطنك، وفقا لما يقوله متخصصون في علم النفس الاجتماعي. وقد اقْتُبِست تلك الأسئلة، مع بعض تغيير طفيف، من مقايس يعرف باسم "مقياس النرجسية الجماعية" الذي يتكون من تسعة بنود، والذي يُستخدم في الأبحاث العلمية لقياس ذلك النوع من النرجسية.

يألف الكثيرون منّا المفهوم والبناء النفسي لـ"النرجسية" عندما تتجسد في صورتها الفردية؛ والتي تتمثل في أن يتصف شخصٌ ما بالتَكلف والمُبالغة في مظهره، وبالإفراط في الثقة في نفسه من الخارج، مع الشعور بالضعف والافتقار للكثير من الأشياء من الداخل.

لكن "النرجسية الجماعية" أمرٌ مختلفٌ تماما؛ فهي تتعلق بإظهار المرء إيمانا مبالغا فيه بتفوق المجموعة التي ينتمي إليها، سواء أكانت عصبة أم جماعة تعتنق دينا واحدا أم تنتمي إلى وطن واحد. ولكن هذا الإيمان المُبالغ فيه يقترن بشكوك يُكِنها المرء في قرارة نفسه بشأن مكانة هذه الجماعة، ولذا يتوق لنيل الاعتراف بتلك المكانة من جانب الآخرين.

وتشكل هذه "الهشاشة الداخلية" الفارق بين "النرجسية الجماعية" وبين شعور الإنسان ببساطة بالفخر بوطنه، تماما كما هو الفارق بين الشخص النرجسي وبين من يتمتع بثقة في النفس واحترامللذات على نحو صحي.

ومن بين الأدوات التي استخدمها علماء النفس لدراسة "النرجسية الجماعية"؛ أداةٌ تحمل اسم "اختبار الارتباط الضمني"، وقد يتخذ هذا الاختبار أشكالا مختلفة، ولكنه يتضمن عادة ضغط أزرار محددة على لوحة المفاتيح لتحديد ما إذا كانت كلمة بعينها تندرج في أكثر من فئة لتصنيف السمات الشخصية.

ويقوم الاختبار على فكرة أساسية مفادها بأنك تسارع بالاستجابة عندما يكون الزر نفسه مخصصا لفئات نربطها ببعضها البعض في أذهاننا. فإذا ما كانت لديك - مثلا - ثقةٌ في نفسك، فسيكون رد فعلك أسرع فيما يتعلق باستخدام السهم الأيسر، لفرز المفردات ذات المدلول الإيجابي، وكذلك المتعلقة بك أيضا.

وإذا تحدثنا بشكل أكثر تحديدا عن كيفية تطبيق هذا الاختبار على صعيد دراسة الشعور بـ"النرجسية الجماعية"، سنجد أن المواطنين البولنديين الذين أظهروا اتسامهم بهذه الصفة - أكثر من غيرهم - كانوا أبطأ من المعدلات الطبيعية، فيما يتعلق بربط الأشياء التي ترمز لوطنهم بمفردات إيجابية.

ورغم وجود جدل يكتنف الكيفية التي يتم بها تفسير نتائج اختبارات "الارتباط الضمني"، فإن نتائج الاختبار الذي أُجري على البولنديين تحديدا، تشير إلى أن من يتصفون منهم بـ"نرجسية جماعية" لم يروا - على الأقل عند مستوى معين - المجموعة التي ينتمون إليها على المستوى الوطني بشكل إيجابي. ويفسر ذلك السبب الذي حدا بهم إلى السعي باستماتة لنيل إقرار وتأكيد من قبل الآخرين لقيمة بلادهم.

وتفيد براهين أخرى بأن جوانب بعينها من "النرجسية الجماعية" تظهر كوسيلة للتعويض عن شعور الشخص بضعفه أو افتقاره للكفاءة على نحو شخصي. وهو ما يماثل بشكل كبير ما يفعله المتصفون بـ"النرجسية الفردية" ممن قد يتفاخرون بأهميتهم لمداراة شعورهم بالقلق.

وعلى سبيل المثال، خلصت الباحثة ألكسندرا شيخوتسكا وزملاؤها في جامعة "كنت" في كانتربري مؤخرا إلى أن الأشخاص الذين شعروا بأنهم أقل قدرة على التحكم في أمور حياتهم كانوا أكثر ميلا لإظهار مؤشرات على اتصافهم بـ"النرجسية الجماعية".

ومن هذا المنظور، خلص الباحثون إلى أن بوسعهم زيادة النقاط التي يحرزها الخاضعون للبحث في الاختبارات الخاصة بإظهار الاتصاف بسمات "النرجسية الجماعية"، عبر دفعهم للتفكير في مراحل من حياتهم لم يكونوا يمسكون بزمامها. على العكس من ذلك، أدى تشجيع هؤلاء الأشخاص على التفكير في الأوقات التي كانوا ممسكين فيها بزمام أمورهم، إلى تقليص شعورهم بـ"النرجسية الجماعية".

على أي حال، لا تشكل "النرجسية الجماعية" مفهوما جديدا، فقد طُرِح للمرة الأولى من جانب المحلل النفسي إريش فروم، وعالم الاجتماع تيودور أدورنو في ثلاثينيات القرن العشرين، لكن تزايد الاهتمام به من جانب الخبراء في علم النفس الاجتماعي جاء في الوقت المناسب بشكل خاص، بالنظر إلى التغيرات السياسية الهائلة التي يشهدها العالم في الوقت الراهن.

وهنا يمكننا إلقاء نظرة على النتائج التي خلصت لها باحثة تعاونت مع ألكسندرا شيخوتسكا، وتُدعى أغنيشكا غولتس دزفالا، وتعمل في جامعة غولدسميثز التابعة لجامعة لندن. فقد وجدت غولتس دزفالا أدلة أوليّة تفيد بأن المتصفين بـ"النرجسية الجماعية" كانوا أميل للتصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية تأييدا لدونالد ترامب، وفي استفتاء الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي دعما لخيار التخلي عن عضوية الاتحاد.

(يتعين هنا توضيح أن ذلك لا يعني أن كل من أيدوا ترامب أو الخروج من التكتل الأوروبي، كانوا يتسمون بـ"النرجسية الجماعية")، في حقيقة الأمر، ربما يسعى الساسة على طرفيّ أي نقاش سياسي إلى اللعب على وتر "النرجسية الجماعية" هذا على نحو أو آخر. فقد يكون دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا قد عزفوا على هذا الوتر الحساس مع المتصفين بهذه السمة، حينما تحدثوا عن استعادة "حق بريطانيا المشروع والعادل في السيادة والاستقلال".

لكن الجانب المؤيد للبقاء، ربما يكون قد أدرك بدوره الحاجة لاستمالة الناخبين ممن يفكرون بالعقلية ذاتها. ولنضع في الاعتبار هنا التعبيرات التي تستنفر الروح الوطنية، التي استخدمها رئيس الوزراء البريطاني حينذاك دافيد كاميرون، عند استعراضه للأسباب التي حاول من خلالها إقناع الناخبين بالتصويت لصالح التمسك بعضوية الاتحاد الأوروبي، عندما قال: "لا أحسب أن بريطانيا بلدٌ انهزاميٌ في نهاية المطاف. أعتقد أننا نبقى ونقاتل. هذا ما يتعين علينا فعله. ذلك ما جعل وطننا عظيماً، وهي الطريقة نفسها التي ستُبقيه عظيماً في المستقبل".

ومن الأمور المثيرة للاهتمام، والمتسقة على ما يبدو مع طريقة تفكير من يتصفون بـ"النرجسية الجماعية"، أنهم أكثر ميلا للاعتقاد في صحة نظريات المؤامرة، خاصة تلك التي تتحدث عن مؤامرات تتورط فيها أطراف خارجية.

ومن بين الأمثلة على ذلك، ما خلصت إليه دراسة أخرى - أجرتها غولتس دزفالا وشيخوتسكا ونُشرت العام الماضي - من أن البولنديين الذين سجلوا نقاطا أعلى على مقياس الاتصاف بسمة "النرجسية الجماعية"، نزعوا إلى تصديق أن الحادث الذي وقع عام 2010، وعُرِف بتحطم طائرة سمولنسك (وراح ضحيته الرئيس البولندي في ذلك الوقت وعشرات الساسة الآخرين)، نجم عن "عمل إرهابي" نفذه الروس.

ومن الأمور الباعثة على القلق ما تشير إليه غولتس دزفالا وشيخوتسكا من أن "النرجسية الجماعية" قد تُذكي نيران العداء والكراهية بين الدول، نظرا لأن من يتصفون بهذه السمة يكونون أكثر ميلا كذلك إلى إقرار أمور مثل الانتقام والأخذ بالثأر، عندما يشعرون بأن الجماعة التي ينتمون إليها تعرضت للإهانة.

مثالٌ على ذلك ما ورد في دراسة نُشرت العام الماضي، من أن المواطنين الأتراك - ممن أظهرت الاختبارات أنهم أكثر اتصافا بـ"النرجسية الجماعية" - نزعوا إلى اعتبار عدم السماح لبلادهم بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي "إذلالا" لوطنهم، بل أعربوا في الوقت نفسه عن سعادتهم بالمصاعب الاقتصادية التي تواجه الاتحاد.

وبالمثل، رأى المشاركون البرتغاليون - ممن تبين اتسامهم بالصفة ذاتها - أن ألمانيا تشكل تهديدا (يُفترض أن ذلك يعود لكونهم ينحون باللائمة على الألمان في تدابير التقشف التي اتخذها الاتحاد الأوروبي وفُرضت على البرتغال). وقال هؤلاء إنهم سيستمتعون بأي فرصة للانتقام من الألمان.

كان المواطنون الأتراك الذين أظهرت الاختبارات أنهم يتصفون بسمات "النرجسية الجماعية" بشكلٍ يفوق غيرهم، أكثر ميلا لتبني توجهات عدائية حيال الألمان؛ كما يظهر في هذه المظاهرة

وأظهرت دراسة أخرى جرت على طلاب أمريكيين أن من أظهروا منهم مؤشرات على اتصافهم بـ"النرجسية الجماعية" بشكل أكبر، كانوا أكثر ميلا لدعم شن عمل عسكري.

رغم هذه النتائج والاستخلاصات، يجدر بنا تأكيد أن "النرجسية الجماعية" تمثل أمرا مختلفا تماما عن مظاهر الفخر الوطني الأخرى، والإشارة إلى أنه من شأن الشعور الإيجابي الذي يُكِنُه المرء حيال وطنه جلب الكثير من الفوائد.

ففي واقع الأمر، أوضحت مراجعة أجرتها الباحثة شيخوتسكا مؤخرا في هذا المضمار كيف يمكن أن يصبح شعور الفرد بقوة بأنه يتماهى مع مجموعة أكبر حجما، أمرا بناء.

وفي هذه الحالة، يمكن أن يجد الناس غاية ومعنى أسمى وأعظم في فعل أشياء من شأنها تحقيق الصالح العام للجماعة التي ينتمون إليها. كما أن حب المرء لوطنه بشكل صحي يرتبط بتحليه بقدر أكبر من التسامح والتفهم حيال أبناء الدول الأخرى.

وما يجعل "النرجسية الجماعية" مختلفة في هذا الشأن أنها ذات نبرة تتسم بطابع دفاعي وبجنون الشك والعظمة، بجانب كونها مفعمة بنهم لا يرتوي، للحصول على التقدير والاعتراف الواجبيّن من قبل الآخرين، ومن بين الأمور الأخرى الواجب وضعها في الحسبان أن الكثير من الدراسات والأبحاث التي جرت بشأن "النرجسية الجماعية"، تَعْمَدُ إلى استبعاد تأثير افتراضات ومفاهيم نفسية واجتماعية مرتبطة بهذه الظاهرة.

ويشمل ذلك افتراضات تُعتبر عادة ذات طابع سلبي؛ مثل تمجيد المرء للمجموعة التي ينتمي إليها (أي إيمانه بتفوق مجموعته عن سواها من المجموعات). كما يشمل افتراضات ومفاهيم أكثر إيجابية مثل "حب الوطن بشكل بناء" (أي أن يحب المرء وطنه، مع اعترافه في الوقت نفسه بأوجه القصور التي يعاني منها، وسعيه إلى التماس سبل من شأنها المساعدة على إحراز تقدم على هذا الصعيد).

وبطبيعة الحال، ففي غمار الفوضى التي تعج بها الحياة الواقعية، يُكِنُ الكثير منّا وفي وقت واحد تلك المشاعر المختلفة بدرجات متباينة. فضلا عن ذلك، يمكن لتوجهاتنا وقناعاتنا أن تتغير بمرور الوقت، فهي ليست عصية على ذلك.

وإذا ما نحينا هذه المحاذير جانبا، سنجد أنه من الأجدر بالناس من مختلف ألوان الطيف السياسي أخذ نتائج الدراسات التي استعرضناها سابقا بشأن "النرجسية الجماعية" على محمل الجد. فإذا كان هناك ما يمكن استخلاصه من تلك الأحداث التي شهدها العام الماضي، فهو أن المستقبل سيحمل لنا المزيد مما يمكن لنا أن نستمع إليه، بشأن نمط الشخصية هذا، الذي لا نعلم عنه الكثير.

اضف تعليق