q

يأخذ الحديث عن فهم النظرة اليسارية شكلين أساسيين، ينطلقان من جوهر الفكر اليساري وما قدمه للإنسانية عبر مسيرته الطويلة، والتي بدأت من تأييد الثورة الفرنسية وحتى يومنا هذا. وفي كلا الشكلين نجد أن العامل الأخلاقي شكّل مأزقاً كبيراً وقف في منطقة حرجة وملتهبة اضطرب فيها فهم هذا التوجه الفكري والصريح من حرية الإنسان خصوصاً مع تصاعد أصوات داخلية ناقدة طالبت وبشدة بأن تكون تجري عملية إعادة إنتاج لنفسه من جديد وإن بمسميات أخرى ومنها "اليسار البديل"، فهل ستثمر هذه المطالبات، أم انها ستكون حلقة جديدة تضاف لمسلسل التأملات والأحلام اللاواقعية؟

والاطلالة على رؤية اليسار ستكون من نافذتي السياسة والأخلاق؛ لأن اليسار أنتج سلطة وإيديولوجيا، لكنها ظلت ضبابية تجاه أهم قضايا الإنسان المرتبطة بوجوده وهي الحرية، هذه الضبابية جعلته يندمج (سياسياً) في مشاريع لا تنسجم مع رؤيته الإيديولوجية (الأممية) كاندماجه - مثلاً - مع المتبنيات التي يغلب عليها الطابع القومي؛ لمجرد الاعتقاد بـ (تقدميته)، ومن صور هذا التقارب ما يعرف بـ (الجبهة الوطنية التقدمية 1974-1978) بين الحزب الشيوعي وحزب البعث ذي الميول القومية في العراق ، حتى مع التجربة المريرة للشيوعيين مع حلفائهم الجدد بعد سقوط نظام عبد الكريم قاسم. ثم يتماهى مع (الإسلام السياسي) في عدة صور وعلى مستويات عالمية وداخلية، لعل أبرزها التقارب الإيراني مع بعض دول أميركا الجنوبية في مواجهة مايعرف بالامبريالية ممثلة بالولايات المتحدة الأمريكية. ومثل هذه الصورة من التقارب انعكست داخلياً في بعض البلدان، كالمواقف المتوافقة إلى حد ما بين حزب الله والحزب الشيوعي في لبنان، وكذلك في العراق اليوم حيث تشتعل الساحة العراقية بالأزمات التي أدت إلى خروج تظاهرات شعبية ساخطة وناقمة على مظاهر الفساد، والتي أفرزت تقارباً لافتاً بين التيار المدني - أكثر أعضائه من ممثلي القوى والأحزاب اليسارية - وجماهير أكبر تيار شعبي ديني في العراق من حيث الجماهيرية وهو التيار الصدري.

كل هذه الأشياء جعلت من اليسار على مستوى التنظيرات التي طرحها خارج سياقاته، وما هذه المواقف وإن بدت عابرة للإيديولوجيا سوى مكابرة لإثبات وجود بدأ يقترب شيئاً فشيئاً من ماضوية أكيدة.

ومن الطبيعي أمام المواقف العائمة أن تتمخض نتائج على فشل بلورة رؤية سياسية تجاه الأحداث بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، فضلاً عن الانهماك من جانب آخر في الترويج لمفاهيم التفسخ الأخلاقي لتأتي النتيجة منطقية في انحسار الدور اليساري.

قد يحتج علينا آخرون في قضية التذبذب في المواقف ذات الصلة بالشأن السياسي، لكن كيف سيكون الدفاع عن القيم التي ترسخ الانحلال المجتمعي وضرب المُسلّمات الأخلاقية وهي الأمور التي كانت من أبرز ما دافع عنه اليساريون تحت يافطة (الحرية الفردية). وتبرز أمامنا في هذا الصدد المظاهرات التي اقامتها نساء يمثلن التوجه الشيوعي وكان المطلب هو إلغاء دور الشرع في قضية عقد الزواج وكان مكان التظاهرات بالقرب من المكاتب الشرعية الخاصة بعقود الزواج، رغم أن اليساريين أكدوا في غير مناسبة أن لا علاقة لهم بهذا الصدد، لكن سلوكياتهم وأدبياتهم في فترة ازدهارهم لاتجعل من مثل هذا الأمر مستغرباً.

هذه الظواهر الغريبة كان اليساريون من المشجعين لها ماجعل صورتهم تهتز بدرجة كبيرة وأثرت على مواقفهم الأخرى التي كانوا فيها من المدافعين عن الضعفاء والمسحوقين. كان عليهم رصد هذه الظواهر وتحليلها وكشف أضرارها البالغة على الإنسان؛ وبسبب هذا الدفاع انزلق الوجود البشري لمهاوي التيه فزادت نسب الانتحار وتعزز الشعور باللاجدوى.

الانقسام تجاه الربيع العربي

وكما كان التعامل اليساري حالماً ورومانسياً في رؤيته تجاه (التقدمية القومية) مندمجاً معها في مشاريع (وحدوية)؛ كان للرومانسية حضور حذر في أحداث مايعرف بثورات الربيع العربي وأصوات الجماهير المنادية بشعار (الشعب يريد إسقاط النظام).

في الحقيقة لم ينتبه اليساريون أو القسم المؤيد منهم لهذه الثورات، إلى قضية بالغة الأهمية، تتعلق بالأحداث التي أطاحت برؤساء تونس وليبيا، وأجبرت الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك على التنحي.

تحليل الأحداث بعمق هو ملغاب -كالعادة - عن اليساريين الذائبين في كل حركة ثورية بمناسبة أو بدونها، فقد غاب عنهم أن بنية البلدان التي شهدت تلك الاحتجاجات الغاضبة هي "اوسع بكثير من شخص الحاكم وحاشيته" على حد تعبير (جلبير الأشقر)؛ لذلك كان لابد من التركيز على هدم البنية وعدم الاكتفاء بإزاحة رئيس وكابينة وزراء، بدليل ماحدث من إسقاط التجربة التي أعقبت تجربة نظام مبارك وإن كانت (إسلاموية) الشكل والتي بشّر بها بعض النخبويين في مصر كأنها خلاصة لتجربة الإنسان الحر لا لشيء إلا لكونها نتجت بعد فعل ثوري!

إن بقاء تلك الأنظمة طويلا في السلطة مكنها من تدعيم حضورها المهيمن، أو على الأقل رسخت فكرة لاجدوى التغيير في الذهنية المضادة، وأمامنا انموذج المعارضة السورية بيسارييها وإسلامييها وكيف أنها بدأت صاخبة ثورية، قبل أن تنتهي لممارسة المساومة الناعمة مع السلطة.

وعلى النقيض من الأطراف المؤيدة لثورات الربيع العربي؛ اتخذت أطراف يسارية تقف على ضفة أخرى موقفاً متشنجاً ماعزز أسئلة الرؤية الحقيقية لليسار في موضوعة مطالبة الجماهير بحريتها، فكيف مثلاً لـ (مناضل) ينادي بالحريات والحقوق أن يهاجم شباباً يعبرون عن ذواتهم مطالبين بإزالة القمع والتسلط؟

إن هذا الانقسام الحاد رسخ الإيمان بالتصدع الفكري لقوى اليسار، وعدم توحد الرؤيا بشأن الأمور المصيرية والقضايا الملحة ذات الصلة بمستقبل الإنسان.

إن الفرق بين يسار الأمس واليوم هو أن الأجيال الحالية قد تعترف بقصوره، وتنطلق لبلورة رؤى جديدة ومفاهيم أكثر انسجاماً مع واقعها، ولن تكون كشعراء وروائيي ونقاد ومفكري مرحلة مابعد نكسة حزيران، حين اكتفوا بعملية جلد ذات هائلة زخرت بها قصائدهم ورواياتهم ودراساتهم، والتي ماأفضت إلى شيء بطبيعة الحال.

اضف تعليق