q

يجري الحديث بقوة عن "تجفيف منابع الإرهاب" على أمل التخلّص من مشاهد العنف والدماء والدمار التي تحيط بنا – في البلاد المبتلاة بهذا الداء الوبيل- ومع النجاح في استعارة هذا المصطلح السياسي من وجود المستنقعات في مناطق سكنية، وما تنتجه من حشرات ضارة و روائح كريهة و أضرار صحية عدّة، بيد أن الأجدر التوقف عند الخلفية التاريخية، وليس فقط تسليط الأضواء على المشكلة المناطقية لهذه الظاهرة (الارهاب)، لأن ومنها ما يعود لتقديس التاريخ المنتج للتطرّف والجمود الفكري ثم الارهاب الدموي.

التاريخ يفسّر القرآن الكريم أم العكس؟

من تداعيات ابتعاد الأمة عن ثقافة القرآن الكريم، ابتلائها برؤية ضبابية للتاريخ تجعلها تأخذ دروس خاطئة من سيرة بعض الرموز التاريخية ومن الظواهر الاجتماعية والسياسية، ولذا نجد مدعيات الارهابيين في أعمالهم الدموية الارهابية أنها تجسيد لسيرة "السلف"، وهذه السيرة تشكل أهم ركائز الفكر الارهابي لتعبئة نفوس الافراد، وتحديداً آلاف العناصر المزدلفين الى معسكرات داعش في العراق وسوريا و افريقيا، وقبل ذلك في باكستان وافغانستان، وشمالاً في الغرب الاوربي.

ويبدو واضحاً غياب حقيقة علمية في خضم الصراع بالمنطقة تحت عنوان "الارهاب"، بأن القرآن الكريم له فلسفة خاصة للتاريخ نابعة من الفلسفة العامة التي تشمل تطورات حياة الانسان والكون والوجود، فهو يتميز عن سائر الرؤى الفلسفية للتاريخ باحترامه دور الإنسان في حركة التاريخ وصنع الاحداث من خلال تأكيده على مفهوم العِبرة التاريخية، وهي تعني محاولة العبور من الحادثة الى جذورها، ومن الواقعة الى اسبابها، ثم الاستفادة منها لمعالجة ظواهر وأزمات مشابهة في واقع الأمة.

أما الرؤية الأخرى فانها تجعل الانسان كأي مادة أخرى قابلة لإجراء التجارب عليها للحصول على النتائج المطلوبة، ومن أبرز الامثلة على ذلك؛ النظرية الاشتراكية التي حاول البعض معرفة تأثيرها على تأخر او تقدم الحضارة البشرية من خلال إجراء التجارب المختبرية على افراد البشر.

وفي إحدى بحوثه القرآنية، أشار سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي – دام ظله- يؤكد على أنه "لايمكن فرض اتجاه معين على التاريخ، والافتراض سلفاً بأن الاقتصاد او السياسة او حتى الدين، هو من يسيّر مجرى التاريخ، بل من الضروري أن ندع التاريخ يتكلم ليفصح لنا عن حقائق باهرة".

ولعل من الشواهد البارزة؛ تأكيد القرآن الكريم على قصة بني اسرائيل وصراعهم الطويل مع الفراعنة وما تجرعوه من صنوف العذاب والمعاناة الرهيبة، وتكرار تفاصيل حياتهم ومشاهد المواجهة مع من ساموهم سوء العذاب طيلة فترات تاريخية عدّة، وذلك في أكثر من سورة وآية، والسبب في ذلك يعود الى أنهم شكلوا الصورة المصغرة للنضال من أجل الحرية والكرامة والبناء الانساني ضد كل أشكال الظلم والاستغلال والاستضعاف، ويشير سماحته في كتابه: "بحوث في القرآن الكريم" الى حقيقة أن "الطبقة المستغِلة تقاوَم من البدء، ليس فقط من قبل المتسغَلين، إذ لا تكون لهؤلاء بصيرة كافية بمعرفة خلفية الاحداث، وليسوا مستعدين للدفاع عن انفسهم، وإنما ايضاً من قبل فئة من المؤمنين بالله؛ الذين يلتفون حول نبي عظيم بعثه الله لإنقاذ الانسانية من شرورها. هذه الفئة تبصر بالنور الذي أنزل الله الى البشر، عاقبة الظلم وتهتدي الى حقيقة السن التي تسيّر حياة الانسان".

ونخرج بنتيجة من هذه الرؤية القرآنية للتاريخ، أن عناصر داعش في سوح المعارك الشرسة، يظنون أنهم ببذلهم ارواحهم بشكل جنوني، يؤسسون لمرحلة تاريخية في الامة، وهم سيخلدون في التاريخ قطعاً لكن؛ ليس بالعنوان الايجابي وإنما بالعنوان السلبي، فهم يضحون بانفسهم في سبيل ما يعدونهم بـ "دولة إسلامية" وفق التصورات الذهنية التي تلغي دور ومكانة الانسان في صناعة الحدث والواقع، وهذا ما يفسّر إصرار هذه الجماعة الارهابية وغيرها من الجماعات التكفيرية، على مفهوم "الجهاد" وأنه المحرك الاول والاخير لحركة التغيير في المجتمع، حتى وإن صاحب التطبيق وسائل عنيفة ودموية، في حين أن الجهاد، بتطبيقاته الصحيحة وشروطه، له مدخلية واسعة في صنع مجد الأمة وتقدمها، وتحقيق العزّة والكرامة للانسان المسلم على مر التاريخ الاسلامي.

القرآن والدور الايجابي للانسان

إن دوامة العنف في الواقع الخارجي ومن خلفه التطرّف الفكري، لن يتوقف عن استنزاف دماء ابناء الامة، ما زال وقود المعركة رخيصة، متمثلة بآلاف الشبان الممسوخين ذهنياً وفكرياً، فبدلاً من أن يكون لهذا الانسان (المسلم) دور في التغيير الحقيقي او الإصلاح في الأمة، يستحيل قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة لإراقة المزيد من دماء مسلمين مثله، وهؤلاء ربما يرون أنفسهم مظلومون او لحق بهم عسف او اضطهاد الحاكم، بيد أنهم، وبدلاً من ان يتوجهوا الى هذا الظالم لتغيير الواقع، توجهوا الى المجتمع المظلوم من هذا الحاكم نفسه، فاذا بهم ينضمون الى صف هذا الحاكم الظالم وهم لا يشعرون.

وطالما يعد القرآن الكريم المظلومين بالنصر والغلبة، بل والحصول على درجات الكرامة العليا بأن يستخلفون الطغاة في الحكم أملاً في تحقيق العدالة وتحكيم قيم الحق والفضيلة، كما هي الحالات العديدة المشار اليها في القرآن الكريم مع أقوام عدّة خاضوا تجارب مختلفة لتغيير واقعهم بقيادة أنبيائهم. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}. (سورة القصص، الآية 5-6)

اضف تعليق