q

الكلمات التي تفوّه بها بابا الفاتيكان السابق بنديكتوس الثاني عام 2006، لم تنطلق عبثاً، إنما كان يعني ما يقول حول الإسلام وتاريخه وقيمه، ففي محاضرة ألقاها بألمانيا تحت عنوان: "العقل والايمان في التقاليد المسيحية والحاضر المسيحي"، أشار الى مفهوم الجهاد في الاسلام وقال: "الإسلام لم يأت إلا بما هو شرير وغير إنساني"!، وانه انتشر بالسيف، وكان في محاضرته يشير الى آيات الجهاد في القرآن الكريم للدلالة على مدعاه، و ربما لم يكن يتصور أحد أن هذه الكلمات إنما كانت تخفي رؤية مغلوطة يُراد لها أن تكون أرضية مناسبة لحرب قذرة جديدة على مستوى العالم، تكون هي "الثالثة" تدور رحاها ليس في اوروبا، كما حصل في الحربين الاولى والثانية، وإنما في الشرق الأوسط (الاسلامي)، وربما السبب في أن العالم، وايضاً بلدان الشرق الاوسط لم تكن تصحُ بعد على صيحات "الدولة الإسلامية" المنبعثة من حناجر التطرف الديني والتكفير؛ سوى العراق، الذي كان يخوض لوحده حرباً دموية مع طلائع تلك الدولة (تنظيم القاعدة) في ظل صمت اقليمي ودولي مريب.

بقطع النظر عن توقيت إطلاق تلك التصريحات، وما خلقته من دوافع لم تكن في العقود الماضية، ولهذا حديث منفصل عن المخاوف من انتشار الاسلام في اوروبا والغرب، بيد ان التعرّف على التوجه الفكري الجديد في الغرب، يساعدنا على تفسير بعض المواقف والمستجدات الراهنة في ظل تصاعد وتيرة "الحرب على الارهاب" التي اتسعت في مدياتها لتشمل مختلف حياة الشعوب في المنطقة بل وفي العالم الاسلامي برمته.

هنالك رؤية ثابتة لدى البعض في الغرب على أن الاسلام دين انتشر بالسيف والإكراه، وانه اضطهد أهل الديانات السماوية وأخضعها اليه، وتحديداً المسيحية واليهودية، ولم تكن الرسوم المسيئة في بعض الاصدارات والمؤلفات التي تتهم الاسلام وشخص النبي الأكرم، هنا وهناك خلال السنوات الماضية، إلا رشحاً بسيطاً من كم هائل من التصورات والافكار لدى هذا البعض.

وحتى يغطوا على الرؤية الشفافة للتاريخ والحضارة، وأن الاسلام ليس هو ذلك الدين السمح والانساني والحضاري، وجدوا الحل في تزوير التاريخ، للحديث عن صلح الحديبية – مثلاً- على انه رمز لسياسة الخداع والتضليل للتفوق على الآخرين، وأن النبي الأكرم، صالح الكفار لكسب الموقف السياسي والعسكري بهدف خداعهم ثم خرق الاتفاق فجأة وانتصر عليهم! أو أن المسيحيين واليهود في المدينة تعرضوا للاضطهاد والإكراه في ظل دولة الرسول الأكرم في بداياته الأولى، وهم يشيرون بالبنان الى مسألة الجزية وعدّهم من أهل الذمة، ويخلصون الى النتيجة؛ بان آبائهم وأجدادهم كانوا يدفعون المال لضمان بقائهم على قيد الحياة!.

هذه الصورة الذهنية التي ابتدعت الانماط والاشكال في الواقع الخارجي حاولت الربط بين الممارسات الدموية من الجماعات التكفيرية وبين التاريخ الاسلامي، ثم دمج الرسول الأكرم ضمن سلسلة الحكام الذين تولوا أمر الدولة الاسلامية الواحدة حتى اليوم الاخير من عمر ما يسمى بـ "الخلافة الاسلامية" في تركيا.

ولكن؛ القتلى والمشردين والارامل والايتام بالملايين والفجائع والمآسي، ليست في اوربا، كما يتباكى البعض هناك على ايام الحروب الصيليبية وما قام به بعض الحكام المسلمون تحت شعارات اسلامية لتوسيع رقعة نفوذهم في العالم، إنما هم اليوم من سوريا والعراق وافغانستان واليمن وليبيا، وإذن؛ فان ما يحصل في الشرق الاوسط أمر طبيعي وعلى المسلمين، إن ارادوا الخروج من هذه الحرب العالمية الجديدة أن يدفعوا كل ما يملكون لحماية انفسهم من الموت والدمار!

كيف حصل ذلك؟ وكيف وجدت تلك التصورات طريقها السريع في واقعنا فأوقعت فينا فتكاً وتمزيقاً بشكل لم يسبق له مثيل؟

اذا كان التاريخ يمثل منظومة التجارب والعبر تفيد الحاضر والمستقبل، وأنه من مفردات ثقافة الانسان وطريقه نحو الحضارة والتقدم، فلابد ان يكون الموقف منه النظر اليه يتميز بالدقّة والموضوعية ومن ثمّ الاستقرار على رؤية علمية ثابتة، كما هو الحال في اللغة والتراث، فقواعد اللغة العربية والحفاظ على التراث، مما يُجمع عليه المسلمون في كل مكان، إلا التاريخ؛ نلاحظ من يقرأه من منظار الحاكم، ومن يقرأه من منظار الثائر والمعارض، وربما هنالك قراءة يمكن تسميتها بالرمادية مصداقاً لقول: "لا معكم ولا عليكم"، أما النتيجة؛ وهي المهمة للبناء الثقافي والحضاري فانها تمخضت عن توجهات متناقضة من هذه الرؤى جعلت المسلمين يعيشون يوماً بلا غد، على "أن الشعب والامة التي لا تاريخ لها لا مستقبل لها".

فعندما ظهر اسم "الدولة الاسلامية في العراق" وبشكل خافت في وقت صعود نجم تنظيم القاعدة بزعامة ابو مصعب الزرقاوي، لم يثير هذا الاسم الاوساط الاسلامية، من مؤسسات و افراد، لان الهمّ كان منصباً على الجبهة السياسية والأمنية وكيفية صدّ الهجمات الارهابية الدموية وبشكل يومي، ثم الحفاظ على كيان النظام السياسي الحديث النشوء في العراق، في وقت كان يُعد لهذه "الدولة" في ظل ذلك التنظيم للمرحلة القادمة لتشمل "الشام" ايضاً وينتقل من الاقليمية الى الدولية، لا يحمل شعارات اسلامية فقط، وإنما خلفية تاريخية تتحدث عن "السلف" وحتى عن سيرة النبي الاكرم، وأن ما يفعلوه يمثل امتداداً للتاريخ الاسلامي.

ولكن؛ اذا كانت ثمة رؤية دقيقة وصحيحة لهذا التاريخ تؤسس لمفاهيم وقيم وتضخ وعياً عميقاً، لما كان المسلمون اليوم ضحية سهلة لفتنة الارهاب والتكفير، مثال ذلك؛ "الصلح"، فانه بدلاً من أن يؤسس لمفهوم السلم اجتماعياً قبل ان يكون سياسياً، فالمسلمون لم يتذوقوا طعم السلم والاستقرار الذي أسس له نبيهم الكريم طيلة قرون متمادية، بينما استفاد منه شخص مثل أنور السادات لتوفير السلام والاستقرار للاسرائيليين المحتلين لأرض فلسطين، عندما تلا الآية الكريمة {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، وهو يتوجه الى اسرائيل عام 1977، ثم كرر نفس العملية؛ ياسر عرفات ليواجه الاعتراضات على جنوحه للسلم نحو الاسرائيليين ايضاً عام 1991، بأن "لا تنسوا صلح الحديبية"!.

وكما أن المسلمين لم يستفيدوا من مفهوم السلم لتحقيق الحياة الحرة والكريمة، فانهم لم يستفيدوا ايضاً من مفهوم الإصلاح السياسي والاجتماعي الممتد بجذوره الى أحكام الدين والشريعة التي جاء بها النبي الأكرم، فانطلق الامام الحسين، وهو حفيد النبي، منادياً بالإصلاح وإنقاذ الامة من فوضى القيم، والدولة من الانحراف نحو الطغيان والظلم، ورغم مرور اربعة عشر قرناً من الزمن، ما تزال شريحة واسعة من الامة، بمن فيها من مثقفين وعلماء ومؤسسات، تتحفظ على مسألة الخروج على الحاكم الظالم وتقويم مساره.

وحسناً قال أحد العلماء قبل فترة: أن "الاسلام شهد أفضل صلح في التاريخ كما شهد أفضل حرب، وهو ما قام به الامام الحسن ومن بعده الامام الحسين"، ومن دواعي الأسف أن يبقى "صلح الامام الحسن" نقطة غامضة، حتى اليوم في نظر الكثير من المثقفين والباحثين المسلمين الى درجة أن يقول البعض: إن الامام الحسن، راح ضحية ذكاء معاوية، بينما راح يزيد ضحية غبائه بالتصدّي الدموي للإمام الحسين!.

وفي خضم الاحداث المتسارعة بطعمها السياسي والعسكري المرّ، يستدعي الامر توقف المثقفين والعلماء والباحثين وبشكل متأنٍ عند مسارات التاريخ الاسلامي ومحاولة تحديد الموقف النهائي منه، ولو فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية والمفصلية، مثل قضايا الإصلاح والتغيير التي من شأنها ان تفضي الى قضايا أخرى تتصل بالعقيدة والحكم، ليفهم العالم أن المسلمين وما يحملوه من عقيدة، ليس فقط لا يهدد أحد، وإنما هو النموذج الصالح لحياة البشر، كما بشّر بذلك النبي الأكرم ومن بعده الأئمة المعصومون.

اضف تعليق