q

من بين أهم النخب الفاعلة في توجّهات الدولة والمجتمع، هي النخبة الثقافية، فليس صحيحا أن النخبة السياسية هي الأهم، فالسياسي إذا لم يكن مثقفا واعيا لدور الثقافة في معاضدة السياسة على تحقيق ما تصبو له الأمة، لا يمكن أن يكون سياسيا قياديا ناجحا، لهذا تؤكد تجارب الشخصيات السياسية القيادية عبر التاريخ، أن أفضل هذه الشخصيات سياسيا، هي التي تحمل ثقافة متميزة ووعيا استثنائيا.

هكذا يُنظَر الى السياسي المثقف ودوره، وهكذا يكون دوره في معالجة المشاكل التي تعاني منها الدولة والمجتمع معا، قد يتساءل أحدهم ما علاقة الثقافة والمثقف في حل مشكلات الدولة والمجتمع؟، الجواب للثقافة ولدور المثقف قدرة فائقة على مساعدة النخبة السياسية والمجتمع عموما على تجاوز العقبات من خلال الثقافة الرصينة.

المطلوب هو أن يؤمن المثقف نفسه بقدرات الثقافة وتوظيفها بالشكل الصحيح، نعم ثمة من يعتقد أن الثقافة تعاني من مشكلات حقيقية، وربما يصح الرأي الذي يرى بأن الثقافة المعاصرة، تعاني من عيوب في بعض مساراتها، كونها تنحو الى الشكلية على حساب الجوهر، فتبدو وكأنها ذات ميول تنزع الى التقليد، وتهجر الابتكار أو تتحاشاه لأسباب عديدة، أولها أن أداة الثقافة الأولى وهو المثقف يعاني من كيفية بناء قدراته وتنظيم دوره، وبالتالي طالما يوجد خلل في البناء الصحيح للمثقف، فإن الثقافة تبقى تعاني من أزمات ونواقص ولا يمكنها أداء دورها الصحيح في تطوير المجتمع على وجه العموم، وهو دور لا ينبغي تجاهله أو إغفاله أو النظر إليه بازدراء.

ولكن أهمية دور المثقف تأتي من نتائج هذا الدور وانعكاس ذلك على المحيط الاجتماعي، فعندما يكون فعل المثقف مؤثرا في محيطه، وقادرا على توجيه بوصلة الثقافة في الاتجاه الصحيح، عند ذالك يكون دور المثقف جوهريا فاعلا، ولكن هذا التأثير يحتاج من المثقف قبل كل شيء أن يبني نفسه بصورة سليمة.

فما هو المعني ببناء المثقف لنفسه، هل يتعلق الأمر بالقيم الاجتماعية وتحديثها، أم بتجديد الأفكار، أم هو البحث الجدي في قضية تجديد الفكر وتحديثه، والمواكبة الفعلية للمستجدات الثقافية على مستوى العالم، ابتداء، وصعودا من المحلية، الى العربية، ثم العالمية، هذا البناء الثقافي المنهجي، سوف يُسهم بصنع مثقف متكامل، يتحصَّل على رؤية واضحة لمفهوم الثقافة، ودورها وقدراتها الكبيرة في تفعيل حركة المجتمع، وبهذه الطريقة يمكن أن نحصل على مثقف يعتني بجوهر الأمور وليس بشكلها وهذا الأمر من الأهمية بحيث يجعل المثقف مؤثرا فاعلا في محيطه الاجتماعي بصورة جيدة.

بناء المثقف فكريا وأخلاقيا

ومن الأهمية بمكان أن نربط بين أهمية الثقافة وفاعليتها، وبين بناء المثقف لنفسه فكريا وأخلاقيا، إذ من الصعب أن يؤدي المثقف دورا متميزا في دعم المجتمع، ما لم يسعى لبناء نفسه بصورة متميزة، لأن مثل هذا البناء المنهجي للمثقف، فكراً وشخصيةً، سيمنح الثقافة فرصا أفضل للتحول من طابعها التقليدي الشكلي، الى الجوهرية التي توفر للثقافة، دورا فعليا في تنظيم أنساق الفكر والتطبيق معا، ما يؤدي بالنتيجة الى دور ثقافي فاعل ومؤثر للمثقفين في الواقع المجتمعي، ويبدأ هذا الدور في اللحظة التي يقرر فيها المثقف، أن يبني نفسه بالطرائق الصحيحة التي تنقله من الشكلية الفارغة المدّعية، الى الجوهرية الممتلئة الفاعلة، مع حتمية انعكاس هذا البناء على فاعلية دور المثقف لاسيما في المرحلة الراهنة التي تضج بالمصاعب، وتعد من أخطر المراحل التي يسعى العراق لتجاوزها بسلام.

إذا نحن نحتاج الى ثقافة متميزة، ومثقف له القدرة على أداء دور متميز، لاسيما في قضية التأثير بأصحاب القرار، والتأثير في خياراتهم المتنوعة، بهذا المعنى نحن نحتاج الى الثقافة الجوهرية، ولكنها لا يمكن أن تتحقق من دون أن يسعى المثقفون بجدية نحو الانتقال من مرحلة الادّعاء الشكلي - وهي مرحلة تعيشها الآن الثقافة العراقية والعربية- الى مرحلة الفكر والفعل الثقافي الجوهري، وهي مرحلة لم تصل إليها ثقافتنا بعد، والدليل على ذلك، عدم قدرة الثقافة على التأثير الفعلي في الأنشطة المجتمعية الفعلية المتنوعة، مع حضورها وتأثيرها الجزئي في هذا الجانب أو ذاك، بينما الصحيح، هو التحكّم الكلي للثقافة في ترسيخ وتطوير أنماط سلوكيات وأفكار محدثة، يلتزم بها المجتمع بعد أن يؤمن ويقتنع بها، لكننا كما هو واضح، لم نصل بعد الى الثقافة المكتملة، التي سيكون بمقدورها فرض طابعها الكلي على الحراك المجتمعي أجمع، ويرجع هذا الى ضعف الاداة الاولى للثقافة، وأعني به المثقف الذي لا يزال مجافيا للجدية والجوهرية، بسبب ميوله الى الشكلي البسيط، الذي لا يتطلب جهدا بحثيا معمّقا، وسعيا عمليا ممنهجا، ومواكبة متواصلة لما يستجد في ثقافات العالم، من أفكار مبتكرة وأنساق ثقافية جديدة تدعم التجديد والتطوير عل صعيدي التنظير والتطبيق في وقت واحد.

التآزر بين الثقافة والمثقف

لذلك من الخطأ أن يبقى المثقفون في حالة عجز وكسل، لاسيما أننا نجتاز مرحلة حساسة، كما أننا بحاجة الى ثقافة متميزة حيوية حتى تكون مؤثرة وقادرة على دفع المجتمع الى أمام دائما، وعلينا أن نتخلص من حالة التعاضد بين مثقفين كسالى، وبين ثقافة تستلطف التقليد، فهذه القضية تشكل العقبة الكأداء التي تقف في طريق الفاعلية المطلوبة، لبناء ثقافة الجوهر، وإشاعة نمط وحضور المثقف الجوهري الفاعل، لهذا ليس غريبا أن يتجمّل الشخص السطحي بسرعة مذهلة بشكليات الثقافات الوافدة، من دون الغوص في مضامينها، والافادة من أفضلياتها وسماتها الانسانية، إذ سرعان ما تنتقل الشكليات الوافدة على مظهر المواطن وسلوكه بحجة عصرنة اللفظ والسلوك معا، وهو عذر لا يستند الى دعامة حقيقية، لأن الثقافة الغربية على سبيل المثال، لم تكتف قط بانتاج الغرائب الشكلية في السلوك البشري، بل تصدرت الجوهرية الكثير مما انتجته هذه الثقافة وقدمته لنفسها وللآخر على حد سواء، ولسنا في مجال إثبات شواهد الإبداع في الثقافة خاصة عندما نستذكر القامات العالمية التي اثرت فكريا وفلسفيا في توجيه مسارات العالم أجمع.

ولكن علينا في هذه المرحلة الحاسمة، أن نعد المثقف الراسخ المنضبط الممتلئ بالأفكار المتوقدة، حتى يكون قادرا على تجاوز السطحية، فيؤثر بصورة جيدة في المجتمع، ويقدم البدائل الجيدة للطبقة السياسية، من اجل وضع الحلول الناجعة للعقبات التي يعاني منها العراقيون، لذا فإن تآزر شكلية الثقافة والمثقف، والانبهار بالآخر حد التقليد الشكلي الاعمى، يؤدي بدوره الى موت الابتكار، أو اللباث في السكونية، والاكتفاء بما تدرّه علينا الثقافات الاخرى من سلوكيات سطحية معيبة، من هنا علينا البحث الدؤوب عن الجديد المبتكَر الفاعل المتميز من الأفكار التي يمكنها مساعدة السياسي وعامة الناس على التعامل مع الواقع الراهن بجدية ونجاح.

في الخلاصة، لكي نتجاوز المرحلة الصعبة، ينبغي أن تكون ثقافتنا منتجة، والمثقف عنصر دعم للجميع، وينبغي أن يكون نموذجا للشخصية الفاعلة الحيوية المؤمنة، وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون ثقافة الجوهر، التي لا يمكن للمثقف الشكلي الكسول ترسيخها وتطويرها، بمعنى أننا بحاجة الى مثقف متميز قادر على تقديم الأفكار الناجعة لمن يحتاجها من اجل عبور هذه المرحلة المحرجة بسلام.

اضف تعليق