q

لم تستطع الثورة المعلوماتية المتطورة على الصعيد الاتصالي، وسرعة الارتباط بأماكن متعددة وإن ابتعدت عن بعضها واقعياً بمسافات شاسعة، الحد من تنامي حالة التعصب الهوياتي أو الايديولوجي، والتي تصدع جراءها جدار القيم الحضارية، واستشرت ظواهر التطرف، وتعززت المنظومة العنفية بشكل رهيب، وهو ما يدعو للتوقف عنده، وتأشير مكامن الخلل الذي أدى لهذا التداعي الخطير، مع كل ما وصل له العالم من حداثة وتجديد.

ومن المفترض -بحسب البعض- أن تكرس المعلوماتية المتطورة قيم التمدن، وتسير بقارب التعايش المجتمعي إلى ضفة حضارية سلمية.

لقد انتشر التعصب في الجسد المجتمعي، وعزز التصارع بين العناوين السياسية والدينية، مع تراجع الثقافة وتقهقرها أمام هذه الأمواج العصبية المخيفة.

وهنا تبرز فكرة الاستعداد البشري لتقبل التعصب، وذلك بوجود خلايا وجينات تنشط - حسب دراسات - التعصب عند الفرد الانساني، بحيث تجعله مستعداً له مع تفاوت في درجة الاستعداد، بينما يذهب مفكرون ونقاد إلى أن التعصب ظاهرة تطبخ في المصانع السياسية والمؤسساتية مع توابل ومطيبات أكثرها عقائدية.

مكونات التعصب

تحضر الإيديولوجيا بوصفها من أهم الممكنات التي ينتعش التعصب بوجودها تنظيراً وسلوكاً، وعند هذه النقطة تحديداً (التنظير والسلوك) قد تتباين الرؤى حول ما إذا كانت الأدلجة متعصبة أصلاً، أو أن ثمة تفسيرات معينة اجتهدت في استثمارها لفرض واقع معين وتبريره.

قد لانميل لفكرة تبرئة التنظير من السلوك تبرئة مطلقة، بل أن بعض السلوكيات العدوانية والمتطرفة انطلقت تنفيذاً للتنظيرات التي زخرت بها كتب العقائد، فنجد ان تبريرات أصحاب المنهج العنفي مستندة عليها وتعتبرها امتداداً للكتب السماوية كما في نموذجي تنظيمي القاعدة وداعش مثلاً.

والحديث عن مؤصلات فكرة التعصب، والسلوكيات الناتجة عنها وتتغذى على أفكارها؛ قد تكون في الإيديولوجيا سواء كانت دينية أو غير دينية، وكذلك في الشروحات التي قد تحرف المفاهيم، وتقديمها بشكل خاطئ - هذا على حسن الظن - أو متعمد وهو ما ينسجم مع الواقع، عن طريق حركات ومؤسسات تقوم مشاريعها على تفعيل التطرف والتعصب لغايات وحسابات تختلف في الأساليب وتتوحد في الأهداف.

وقد يأخذنا الحديث في هذا المسار إلى أصل الفجوة بين النظرية والتطبيق، والتي اتسعت عبر مراحل متعاقبة، وترتبت على اتساعها الاشكاليات الكثيرة، وبها تعبدت طرق المتاهات، وجعلت العالم الإنساني سابحاً بأجواء من الحيرة والتخبط، وبالتالي عدم قدرته على خلق أنساق تحقق مايصبو إليه، عبر إسقاط النظرية على الواقع للبدء بعملية التطبيق.

وتتمثل الفجوة بصورتين: الأولى عبارة عن تصارع النظرية مع مثيلاتها؛ بهدف إثبات الوجود، وصحة المنهج. أما الثانية فتتمثل في الاستخدام الأمثل في التطبيق.

وكلا الصورتين، في حال تمثلنا بهما في موضوعة التعصب؛ سنجد أن صراع النظرية المتطرفة -النظرية السلفية مثلاً -تتصارع مع نظريات أخرى متسامحة تنطلق من ذات المنطلق الديني، لكنها قد تتشابه على مستوى التطبيق العنفي مع تطبيقات أخرى خارج المنظومة الدينية، كما في سلوكيات بعض الجماعات المتطرفة، والتي انطلقت من خلفيات ماركسية.

أرضية التسامح

بما أن انتعاش التعصب يهدد القيم الاجتماعية؛ لابد من الاجتهاد في صنع أرضية خصبة للتسامح وقبول الآخر كمعطى إنساني ضروري للتواصل والاستمرار، وهذه الأرضية تبدأ من الأسرة من خلال تعامل الوالدين مع الأبناء، وخلق الأجواء العائلية المناسبة، وصولاً لكل الفعاليات المجتمعية، وبذلك يتم قطع الطريق على أية محاولة لاختراق المتطرفين والمتعصبين.

صنع أرضية التسامح تمثل العتبة الأولى للوصول إلى مجتمع حضاري، فإذا سلمنا أن التعصب نتاج فعل إنساني أو صناعة إنسانية، فإن التسامح ينبغي أن يكون صناعة إنسانية عبر الدراسات والبحوث التي تكتب فيه، وبتأكيدها على مستوى السلوكيات والأفعال المنسجمة مع مايطرح تنظيرياً، فيتحقق المعادل الذي يقف بوجه التيارات العنفية، ولتكن البداية من الحواضن التربوية وأهمها الاسرة كما أشرنا، ثم المؤسسات، آخذين بنظر الاعتبار كثير من المؤسسات التي تنشأ بأهداف إنسانية تختبئ خلفها أجندات مريبة تعمل على اختراقها.

ثم يتم الاتجاه نحو تعزيز ثقة الفرد بنفسه، وتشجيعه على عدم الانغلاق على ذاته، والانفتاح المعرفي والأخلاقي على الآخر المختلف، فمع المختلف تنضج المعرفة؛ لأن البيئة الانغلاقية تتسبب في جعله أسيراً لأحادية الأفكار والتوجهات، مايعني خضوعه لنمط تقليدي غير خاضع للتطور أو التبدل، في زمن تتسارع فيه أشكال التجديد والتحديث.

ومثل هكذا عملية ؛ لابد أن تكون مشتركة بين المحيط الأسري الناجح والمتماسك من جهة، والمحيط التعليمي ممثلاً بالمدارس والجامعات، فالتعاون المثمر بين المحيطين سيتيح للفرد قطعاً ثقة تبعده عن أي تقوقع أو انغلاق يؤديان به إلى لعب أدوار لاتنسجم مع الفطرة البشرية.

الثقافة التنويرية

وإذا تمكنا من صنع بدايات أرضيتنا المتسامحة وفق المعطيات السابقة؛ سيأتي دور الثقافة التنويرية التي يجب أن تلعب دورها المحوري والمؤثر ؛ لتزيح آثار الثقافات المتطرفة الساعية في الوصول لمساحات أوسع في خريطة الوعي المجتمعي.

وتتوزع أدوار الثقافة التنويرية، بين المؤسسات التربوية والاعلامية والابداعية، فكل له دوره في توجيه المجتمع لاتجاهات ترفض كل مايمس ويخدش القيمة العليا للإنسان، وحقه في العيش الحر والكريم، ولابد لعناصر ثقافة التنوير أن تشجع الفرد على صنع إرادته الصلبة وتعزيز تفاعلها مع هذه القيمة العليا.

إن تعزيز دور (الفاعل التنويري)؛ سيخلق بيئة مجتمعية مستعدة للفعل الثقافي وتوجيهه وصولاً لمراحل عالية من مشروع صنع الأرضية المتسامحة.

اضف تعليق