q

سيدني فينكليشتاين-أستاذ جامعي في علوم الإدارة

 

يتخذ كبار القادة السياسيين وعمالقة الصناعة في العالم المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا وسيلة للتباهي، في وقت يخفقون فيه في تغيير العالم إلى الأفضل، والآن جاء دورنا نحن لنغير العالم بأنفسنا.

ماذا يعني شعار "القيادة المسؤولة والمستجيبة"؟ اختار المنتدى الاقتصادي العالمي هذه الفكرة (أو الهدف، أو الشعار، سمه كما شئت)، ليكون عنوانًا للملتقى الذي ينظمه المنتدى في دافوس هذا العام، فما الذي تقصده النخبة المشاركة في المنتدى من هذا الشعار؟.

لا شك أن فكرة تضافر الجهود الدولية لحل مشاكل عالمية هي فكرة نبيلة من البداية، فإن لم يلتفت أحد للمشاكل التي يواجهها العالم، فلن تحقق المجتمعات تقدمًا.

ويدرك المنتدى الاقتصادي العالمي أن الاقتصاد السياسي العالمي يتجه نحو منعطف خطير، سواء بوصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو انشغال الصين بتحقيق مزيد من السلطة والمكانة.

وقد انتقدت غير مرةٍ اختيار المنتدى الاقتصادي العالمي وما شابهه من ملتقيات لتناول قضايا بهذا القدر من الأهمية، وشبهتها بحلبة الرقص، حيث تُراقص الدول ذات النفوذ بعضها بعضًا في دافوس، ولا يعيرون اهتمامًا يُذكر لقضايا مثل التنمية، أو حل بعض المشاكل المستعصية التي يواجهها العالم.

بل يولي الحضور الاهتمام الأكبر بالظهور وإثبات أنهم من بين المدعوين إلى الملتقى، ليتباهوا أمام الآخرين، ويحكوا لهم عما دار من أحاديث في أروقة المنتدى.

وفي الواقع، ربما تندهش من المناقشات التي لا تمت بصلة للغرض الذي يتبناه المنتدى المتمثل في إيجاد حلول للقضايا العالمية، ولكن الأكثر إثارة للدهشة ما ينطوي عليه تجمُّع النخبة العالمية واختباؤهم في مكان منعزل في جبال سويسرا من معانٍ رمزية عميقة.

النجاح في الحياة

يأتي إلى مكتبي كل يوم رجلٌ ليجمع القمامة. وحينما أكون في المكتب، نتجاذب معًا أطراف الحديث، ويحكي لي دومًا كيف قضى يومه، إما في التزلج، أو حضور حفل موسيقي، أو تقديم المساعدة لبنك الطعام المجاور لمنزله، أو أحيانًا في قضاء بعض الوقت مع الأهل والأصدقاء.

ويعبر ذلك الرجل عن نفسه بكلمات بسيطة لا تنطوي على معان عميقة، ولكنها أصدق من كثير من المحادثات التي تدور في دافوس، لأن هذا الرجل قام بهذه الأعمال التي حكى لي عنها بالفعل. فهو يعيش حياته، ويعمل، ويتمتع بشخصية جذابة، وناجح بشكل عام.

بالطبع هذا لا يُقارن برؤساء الدول والرؤساء التنفيذيين للشركات الذين يتنافسون على الحصول على أفضل أماكن الإقامة، وسبل الراحة، وطريقة الظهور وسط الحضور لكي يراهم الناس، وذلك لأن هذا الرجل البسيط لا يتسم بالزيف.

فهذا الرجل يهتم بحياته فقط، ولا يضع خططًا تفوق إمكاناته، ولا يتحدث عن مساعدته للآخرين، بل يساعدهم بالفعل. ولا يعرف الكثير عن الثورة الصناعية الرابعة (الشعار الذي يستخدمه المنتدى الاقتصادي العالمي لوصف التغيرات الهائلة التي تُحدثها التكنولوجيا الرقمية، والذكاء الاصطناعي وأجهزة الروبوت).

لكن هذا الرجل يعرف كيف يحافظ على نظافة وترتيب المكاتب، لأن هذه هي مهنته التي يعتز بها، وهي مهنة تفيدني وتفيد غيري، وهناك الكثيرون مثل هذا الرجل. فهناك سيدة اعتدتُ أن أذهب إليها لقصّ شعري منذ 15 عامًا. وقد سمعت أبناءها ذات يوم يتحدثون عن ابنها الأكبر في المدرسة الثانوية وعن خططه الشخصية. وسمعت أيضًا عن المستحضرات الجديدة التي تنوي هذه السيدة تجربتها على رأسي.

فهذه المرأة تتقن عملها، وليست زائفة أيضًا، شأنها شأن النادل في المطعم الذي أفضله، والفتاة التي تُعد لي القهوة في المقهى المجاور لمنزلي، وساعي البريد الذي يتوقف دومًا ليلقي السلام عندما أكون بالخارج، كل هؤلاء أناسٌ حقيقيون وغير زائفين، يقومون بأعمالهم يوميًا، أيًا كانت طبيعتها، ولكنهم يفعلون كل ما في وسعهم لإنجازها على أكمل وجه. وهؤلاء الناس هم الذين تنطبق عليهم كلمة "المجتمع".

ولهذا لا أخفي أنني لست مهتمًا بهذا الجمع من الناس في منتدى دافوس. فكلٌ منهم يتظاهر بأنه يساعد العالم ليغدو مكانًا أفضل للجميع. ولكن الناس الذين أصادفهم يوميًا يعملون فعلًا وليس قولًا. وأنا أفضل دومًا من يعملون على من يتظاهرون بالعمل.

أزمة النخبة على مستوى العالم

تمرّ النخب العالمية بأزمة في الوقت الحالي. وعلى الرغم مما أحدثه الخطاب الذي يستهدف مشاعر الجماهير من تغيير على الصعيد السياسي مؤخرًا على نحو لم يكن يتوقعه إلا قليلون، لا أظن أن تلك النخب السياسية والاقتصادية ستتخلى عن سيطرتها بسهولة، لأن ما لديها من ثروة ونفوذ تجاوزا الحد.

وقد أُتيحت لرؤساء الحكومات، وأصحاب الشركات الكبرى، ورؤساء الشركات غير الربحية، والمنظمات غير الحكومية جميع السبل التي تمكنهم من المحافظة على نفوذهم، واتخاذ القرارات التي تخدم مصالحهم.

وإذا كنا ننتظر من هؤلاء أن يحلوا مشاكل المجتمع، فأزعم، وأتمنى ألا أكون مصيبًا، أننا سننتظر طويلًا، أو بمعنى أصح، سننتظر إلى الأبد. هؤلاء لن يفعلوا أي شيء بالمرة.

وفي النهاية، لن تسفر المباحثات الأكثر نجاحًا في منتدى دافوس إلا عن صفقات كبيرة تصب في مصلحة أطرافها. ولكن إذا اتخذت هذه الصفقات منحى عالميًا، كتلك التي تُعنى بالتغير المناخي، فستطغى عليها فرضية وجود تلاعب واحتيال.

وربما تترتب على تلك الصفقات الكثير من الأضرار التي لم تكن في الحسبان، مثل الصفقات التجارية بين البلدان وبعضها التي قد تشعل شرارة ثورة افتراضية على مستوى العالم، والشاهد على ذلك أن الناس ينحون باللائمة على الأسواق المفتوحة بسبب التفاوت الشاسع بين الطبقات في الولايات المتحدة، ومعضلة حرية حركة المهاجرين إلى المملكة المتحدة، ولا سيما من بلدان الاتحاد الأوروبي.

إلا أن تلك الصفقات الكبيرة التي تُسوّق على أنها "حلول" تشوبها نقيصتان، أولاهما أن هذه الصفقات معقدة، بحيث يتعذر فهم ما يترتب عليها من آثار لم تكن في الحسبان، وثانيهما أنها لن تُنفذ بنجاح إلا بوجود درجة من الثقة بين الأطراف، وفي الواقع أصبحت هذه الثقة منعدمة.

وعلى الرغم من ترديد الكلمات الرنانة حول الصالح العام، تدرك جميع الأطراف أنها دخلت في معادلة صفرية، تتساوى فيها مكاسب طرف مع خسائر طرف آخر، لتصبح النتيجة في النهاية صفرا، لكن الجميع يسعى للفوز رغم ذلك.

ولن يتحقق أي شيء من دون وجود ثقة بين الأطراف، وهذه الثقة لن تُبنى طالما أصحاب السلطة والنفوذ يتباحثون مع بعضهم بعضًا في المنازل الريفية على جبال الألب السويسرية.

بل تأتى هذه الثقة من التفاعل بين شخصين أو أكثر عندما يوفون بوعودهم والتزاماتهم. ولا يشترط أن يكون هؤلاء الأشخاص مثاليين، ولا أن يسعوا لإيجاد حلول مثالية. بل عليهم فقط أن يلتزموا بإتمام ما وعدوا بتنفيذه.

وكلما وثقت في الأخرين، زادت ثقتك بنفسك، وهذا سيزيد من إصرارك، وربما يتفتق ذهنك عن حلول جديدة لمشاكل قديمة، وهذا يعني إنك ستصبح قادرًا على ابتكار حلول للمشاكل، وفي هذه الحالة لن يلومك الآخرون إن أخفقت هذه الحلول. وسرعان ما ستجد الناس من حولك يبادرون بقبول المسؤوليات الأصعب، وستلاحظ تحسنًا، ولو قليلًا، في أدائهم للمهام الموكلة إليهم، إيًا كانت.

ونادرًا ما تتبع النخبة حول العالم هذا النهج، بل على النقيض من ذلك، ينزع أغلبهم إلى تقديم وعود تفوق قدراتهم وإمكاناتهم، ولهذا يحملهم الناس دومًا المسؤولية إن لم تنجح هذه الوعود في حل المشاكل على النحو الذي وعدوا به. وهذا ما حدث على سبيل المثال في الاتفاقيات التجارية العالمية.

إذن، في حالة إخفاق حكومات الدول العظمى وعمالقة الصناعة والمؤسسات غير الحكومية في تغيير العالم إلى الأفضل، فكيف يمكنك أن تغيره أنت؟ وكيف يمكنك أن تُحسّن من جودة الحياة؟

طرحتُ هذا السؤال على صانعة القهوة المفضلة لدي، فأجابت: "هل أعد لك القهوة الإيطالية اليوم؟" فاحتسيت قهوتي في صمت.

اضف تعليق