q
إنسانيات - حقوق

عمليات إبادة الشيعة في حلب وجبل عامل

فتوى الشيطان

من أين جاءت داعش؟، وهل هي صناعة أمريكية بحتة؟، أم هي نتاج عقليات تاريخية متخلّفة وسادية خطت نشأتها الدموية الأولى بفتاوى القتل والإبادة والدمار واستباحة الأعراض والأموال والممتلكات؟.

رغم أن البصمة الأمريكية والخارجية المعادية للإسلام واضحة في دعم هذا التنظيم المتوحش إلا أن البصمة التي عملت على تكوينه وبذرت جذوره الأولى أشد وضوحاً في تاريخ الإسلام الأموي المنحرف قبل أن يكتشف كولومبس أمريكا، فهذا التنظيم لم يكن (بحتاً)، بل ساعدت عوامل وسياسات وأطماع وتوجّهات على إخراجه بهذا الشكل العنيف لغرض تشويه صورة الإسلام وأغراض سياسية ومذهبية.

لقد ولد هذا التنظيم من فتاوى شيوخ الأمويين ووعاظ السلاطين الذين دفعتهم هستيريا الحقد الأعمى وهوس القتل والتلذذ بدماء الأبرياء لإصدار تلك الفتاوى التي كان خطرها على الإسلام أشد من خطر القنبلة الذرية على هيروشيما، فلازالت تلك الأيادي الملطخة بالدماء تتناسل وتتوارث الحقد على الشيعة وأصبح لها إعلاماً واسعاً ونبرة أكثر عدائية وحقداً وهي تبث فتاوى القتل والتحريض على الشيعة.

إن الماكنة الأموية التي اخترعها عمرو بن العاص وأبو هريرة وسمرة بن جندب وغيرهم والتي أحدثت شرخاً في صفوف المسلمين وزرعت بينهم الفتنة منذ يوم صفين بمكيدة رفع المصاحف، طوّرها أحفادهم وأخذت تنتج الفتاوى لهدم كيان الإسلام بإباحة قتل الشيعة وإبادتهم (تابوا أم لم يتوبوا) !!!!!

الفتوى الدموية

أجل هذا ما أفتى به أحد أسلاف ابن آكلة الأكباد الذين توارثوا الحقد الأعمى على الشيعة وأوغلوا في دمائهم فأعطى بفتواه الشيطانية هذه الضوء الأخضر لسلاطين العثمانيين وولاتهم في البلاد الإسلامية لممارسة عمليات إبادة جماعية ضد الشيعة في حلب وجبل عامل وتبريز والكثير من البلاد، فقتل الشيعة في كل مكان، وهذا المجرم هو نوح الحنفي مفتي البلاط العثماني.

ليطلع كل مسلم أو كل إنسان مهما كان دينه وانتماؤه وتوجّهاته إلى نزعة هذا الرجل الإجرامية وصبغته الوحشية وهي تخط هذه الفتوى الدموية، وليبحث في التاريخ فهل يجد لها مثيلاً حتى عند أشد الأقوام وحشية وسادية ودموية ؟ وهذا ما قاله في فتواه: (فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفار تابوا أو لم يتوبوا) !!! ثم حكم بسبي نسائهم وذراريهم واسترقاق أطفالهم !!!

وقبل ذلك افترى على الشيعة بأشد الإفتراءات وأقبح الأكاذيب وهي ما تنعق به الفضائيات الوهابية الآن في التحريض على الشيعة وقتلهم ومن هذه الأباطيل التي افتراها على الشيعة: (أنهم يستخفون بالدين ويستهزئون بالشرع المبين، ومنها أنهم خرجوا على طاعة الإمام، ومنها أنهم يستحلون المحرمات ويهتكون الحرمات، ومنها أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم ضمناً بنسبتهم إلى أهل بيته هذا الأمر العظيم، ومنها أنهم يسبون الصحابة) !!!

دول الجريمة

هذا ما طفحت به السياسة الأموية التي شوّهت صورة الإسلام من الكذب والبهتان والظلم والعدوان على الشيعة وإغراء الحكام على قتلهم وإبادتهم، فما هذه الفتوى إلا امتداد لسلسلة الفتاوى التي أنتجتها السياسة الأموية الحاقدة على يد سمرة بن جندب وأبي هريرة، وما الجرائم التي ارتكبت بسبب هذه الفتوى إلا امتداد لسلسلة الجرائم التي ارتكبت على يد معاوية بحق كبار الشيعة من الصحابة كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق وغيرهم، ثم تتابعت هذه الجرائم على يد ابنه يزيد في كربلاء والحرة، واستمرت طوال فترة الأمويين، ثم جاء العباسيون ليكملوا المسلسل الإجرامي.

ثم استمر هذا المسلسل الإجرامي وأخذ طابعاً أكثر وحشية ودموية على يد الغزنويين والأيوبيين والسلجوقيين وغيرهم من مجرمي التاريخ الذين فتكوا بالشيعة وأوغلوا في دمائهم كصلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي وطغرل السلجوقي وغيرهم ليأتي دور العثمانيين

تفنيد الأكاذيب

لقد سفك هذا المجرم بخطه لهذه الفتوى دماء الآلاف من الأبرياء وهتك ستر الحرائر وانتهك الحرمات ودمر ديار يشهد أهلها أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤدون الفرائض ويقيمون الأحكام ويقرأون القرآن.

لقد كفر الحنفي بفتواه هذه أشد الكفر بتكفير الشيعة الذين هم أحرص الناس على إقامة الفرائض وتطبيق أحكام الدين وتقديس سيد المرسلين وآله الأطهار وصحابته النجباء الأخيار.

وقبل استعراض المذابح والمجازر وعمليات الإبادة التي سببتها هذه الفتوى القذرة التي خطتها يد الشيطان وسوّلت نفسه المنحرفة فيها قتل الأبرياء وحكم فيها بحكم السياسة الأموية التي ما فتأت تكيد للإسلام والرسول وأهل بيته نجد من الأولى فضح هذا المجرم وتفنيد أكاذيبه وكشف أباطيله وإن كان لا يستحق الرد.

إن حقد هذا المنافق الكافر قد أعماه وأظله سواء السبيل وحكم بنقيض الحقيقة فكان من أصحاب هذه الآية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، فلو تحرّى الحنفي على من ينطبق قوله هذا لما قال ما قال، فهل خُفي على هذا المجرم قبل إصداره هذه الفتوى أن هذه الأوصاف التي أطلقها من الكفر والإستخاف بالدين والاستهزاء بالشرع المبين، واستحلال المحرمات وهتك الحرمات، وسب النبي (صلى الله عليه وآله) ـ والعياذ بالله ـ والصحابة (رضوان الله عليهم) تنطبق على غير الشيعة، فليته ذكر مثالاً واحداً على حشود الإفتراءات والأكاذيب التي ألصقها بالشيعة.

فهل خُفي عليه من الذي خرج على الإمام وفرق أمر المسلمين هل هم الشيعة أم الذين نكثوا بيعة الإمام وخرجوا لقتاله في البصرة ؟

وهل خُفي عليه من استخف بالدين واستهزأ بالشرع المبين، هل هم الشيعة أم من قال: (سُنّتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) ؟

وهل فرض الشيعة صلاة التراويح وقالوا عنها: (نعم البدعة هي)، (أم أسقطوا من الأذان ووضعوا فيه ما ليس فيه)، (أم قالوا باجتهادهم في حكم الطلاق بخلاف النص) (أم ألغوا سهم المؤلفة قلوبهم الذي فرض في القرآن) أم قالوا والعياذ بالله (إن النبي ليهجر) !!!

أما بالنسبة لقوله إنهم يسبّون الصحابة فهذا مدعاة للضحك والله، فلو احتكم هذا الفاجر الفاسق المنافق إلى عقله لوجد أن الشيعة هم من أكثر الناس توقيراً واحتراماً للصحابة الأجلاء الذين اتبعوا وصية النبي في التمسك بالثقلين الكتاب والعترة، ووجد إن من سنَّ سبَّ الصحابة وقتلهم وتشريدهم هم أسلافه من بني أمية أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، وليطالع كل منصف إلى ما تعرض له الصحابة الأجلاء أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود من السبِّ والظلم والضرب والنفي على يد عثمان، وما تعرض له حجر بن عدي وعمرو بن الحمق من التشريد والتعذيب والسجن والقتل على يد معاوية الذي أوكل إلى عماله في البلاد بسبِّ أمير المؤمنين على المنابر، وما تعرض له البقية الباقية من الصحابة في المدينة المنورة من القتل والتنكيل على يد يزيد بن معاوية في واقعة الحرة حتى قيل أنه لم يبق صحابياً بعدها !!!

ونكتفي بهذا الرد فلسنا بصدد تفنيد هذه الأباطيل التي افترى بها الحنفي على الشيعة ومن شاء الإطلاع على الفتوى كاملة والرد عليها كاملاً ووافياً فليراجع ما أورده السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره الشريف) في كتابه: (الفصول المهمة في تأليف الأمة) (ص130) وما بعدها.

الوحشية تتوالى

عندما مات الإسكندر اليوناني عام (1920) بسبب عضة قرد مدلل فإن تلك العضة دفع ثمنها آلاف الأبرياء عبر سلسلة من الأحداث الدموية حتى قال ونستون تشرشل: (إن ربع مليون إنسان ماتوا نتيجة عضة القرد تلك)، وهذا ما ينطبق على فتوى الحنفي التي تشبه عضة القرد تلك، فحينما يستفحل شعور العداء للإنسانية فإنه كمن ينتظر الضوء الأخضر أو الإشارة ليتحول هذا الشعور إلى وحش مدمر ينسلخ عن كل ما يمت إلى الإنسانية بصلة، وهكذا كان العثمانيون وولاتهم الذين على شاكلتهم حينما طبَّقوا هذه الفتوى بحذافيرها فارتكبوا من المذابح والمجازر والجرائم ما يندى له جبين الإنسانية.

كانت هذه الفتوى في عهد السلطان سليم الأول الذي حكم من عام (918/926هـ/1512ـ1520م)، وكانت في تلك الفترة منطقة جبل عامل تعيش عصر النهضة العلمية، وأصبحت موقعاً علمياً وثقافياً ومركزاً اساسياً للشيعة، فكانت الهدف الأساس للحكومة العثمانية التي كانت تحارب الوجود الشيعي.

وفي العام (1517م) استولى سليم الأول على حلب وجبل عامل والمنطقة بعد تغلبه على السلطان المملوكي قانصو الغوري، فأحكم العثمانيون سيطرتهم على الشام واستمروا ثلاثمئة عام، واكملوا خلالها سياسة المماليك في إيذاء الشيعة واضطهادهم وتشريدهم وقتلهم في هذه المنطقة، وكانت محاربة علماء الشيعة وخصوصاً علماء جبل عامل من الأهداف الأولى للحكم العثماني الذي مارس عمليات الاعتقال والقتل وإغلاق المدارس.

ولم تكن هذه الفتوى ذات نبرة غريبة على البلاد المحيطة لجبل عامل من إمارات الجبل في لبنان والصفد في فلسطين التي تلطخت أيدي أمرائها بدماء الشيعة قبل هذه الفتوى ولكن كان لهذه الفتوى صداها وتأثيرها الكبير كونها صدرت من مفتي البلاط العثماني وأعطتهم الضوء الأخضر بتصفية الشيعة وأصبحت الأجواء مهيّأة تماماً لذلك.

فقد حفل تاريخ جبل عامل بالكوارث والمحن والغارات الوحشية من مجاوريه من حكام دمشق وامراء بلاد صفد (فلسطين) و جبل لبنان وغيرهم الذين أعمتهم العصبية المذهبية فارتكبوا أبشع الأعمال الإجرامية بحق الشيعة فقتلوا ونهبوا وسرقوا واستحلوا الحرمات وانتهكوا المحرمات.

استهداف علماء الشيعة

بعد أن استولى العثمانيون على بلاد الشام عام (1516م) ولوا عليها أسر إقطاعية تتولى إدارتها، وهذه الأسر الحاكمة خاضعة بشكل رسمي للبلاط العثماني الذي كانت تُجبى له الضرائب، ولم يكن العثمانيون يعيرون اهتماماً للسياسات الفاسدة والمستبدة التي تعامل بها هذه الأسر الإقطاعية الناس وخاصة المعاملة القاسية التي يعاملون بها الشيعة بالخصوص، وكان كل همهم هو جمع الضرائب بل إنهم كانوا يعينون هؤلاء الحكام على سياستهم بقتل الشيعة فكان من الطبيعي أن يولوا على تلك البلاد الأسر المتطرفة في عدائها الصريح للشيعة وهي السياسة التي عرفوا بها.

وكان من ضمن الجرائم التي ارتكبتها السياسات المعادية للشيعة في تلك المنطقة قبل دخول العثمانيين ـ وبفتاوى شيوخ الدم ـ قتل العالم الشيعي الكبير محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول وصلب ورجم ثم أحرق في دمشق في سنة (785هـ) في عهد دولة بيدر على يد برقوق بفتوى القاضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة الشافعي بعد أن حبس سنة كاملة في قلعة الشام، وكان قد ألف في هذه السنة كتاب اللمعة الدمشقية في سبعة أيام ولم يكن معه من الكتب الفقهية سوى المختصر النافع للمحقق الحلي، ويعد الشهيد الأول من أجلاء علماء الشيعة وأفاضلهم وعظمائهم.

وأكمل العثمانيون ما بدأه أسلافهم ففي عام (966هـ) قتل زين الدين بن علي الجبعي المعروف بالشهيد الثاني الذي يعد أول من صنف من الإمامية المتأخرين في دراية الحديث، وقد قبض عليه في مكة المكرمة وهو في الطواف بوشاية قاضي صيدا وقتل في طريق القسطنطينية في سلطنة السلطان سليمان العثماني.

وهذان نموذجان مما كانت ترتكبه السياسة من جرائم بحق علماء الشيعة، ففي تلك الفترة القاسية على الشيعة أصدر المجرم نوح الحنفي مفتي البلاط العثماني فتواه الدموية بوجوب قتل الشيعة، وعلى أساس تلك الفتوى، قام السلاطين العثمانيون بإعدام الكثير من العلماء والفقهاء الشيعة في حلب وجبل عامل ومناطق أخرى مما اضطر الكثير منهم إلى الهجرة إلى ايران والحجاز والعراق والهند، وقد كتب أحد هؤلاء العلماء وهو الشيخ حسين العاملي، إلى أستاذه الشهيد الثاني بأن هجرته كهجرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حينما أرادت قريش قتله.

عمليات الإبادة في جبل عامل

في ذلك الجو المشحون بالعداء للشيعة عاش الشيعة أقسى فتراتهم حتى جاءت سنة (1147هـ) حين هاجم الأمير ملحم بن حيدر وبسبب هذه الفتوى جبل عامل (يوم وقعة أنصار)، فقتل ما لا يحصى من الشيعة، وأسر ألفاً وأربعمائة منهم، وهتك الحرمات، واستباح المحرمات، وخرب، ونهب، وسلب !!

في حلب

وفي حلب قُتل أكثر من أربعين ألفاً من الشيعة بسبب هذه الفتوى أيضاً، ونُهبت أموالهم وصُودرت ممتلكاتهم، وهرب الباقون إلى نبل والنغاولة وأم العمد والدلبوز والفوعة وقراها !!

تفشي سموم الفتوى

ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد بقيت هذه الفتوى المشؤومة تبثُّ سمومها في الجسد الإسلامي، ولقي منها الشيعة في البلاد الإسلامية الويلات والمآسي، ففي كل البلاد التي دخلها العثمانيون في إيران وغيرها أثناء حروبهم مع الصفويين كانت هناك فتاوى جاهزة باستباحة المدينة المحتلة وقتل كل من فيها من الشيعة، حتى دبَّ الرعب والذعر في نفوس أهالي المدن الحدودية بين إيران وتركيا التي كانت معرضة دائما للغارات والحملات العثمانية.

مواقف الدفاع

ولكن رغم كل ما حل بهم من قبل السلطات الدكتاتورية إلّا أنهم استماتوا في الدفاع عن أرضهم وعرضهم، حيث سطّر شيعة جبل عامل أروع صفحات البسالة والبطولة والتضحية من أجل عقيدتهم، وكتبوا بدمائهم معنى الحرية والثبات على المبدأ مقتدين بسيد الإباء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في صمودهم وتحديهم.

ففي عام (1077هـ) أغار الأمير أحمد على النبطية فتصدّى له أهلها وخاضوا معه معركة مصيرية انتهت بهزيمته فارتد على أعقابه يجر أذيال الخيبة والخسران بعد أن لاحقه العامليون إلى صيدا وكبدوه خسائر كبيرة.

واستمر أمراء لبنان والصفد في غاراتهم على جبل عامل وبقيت المعارك سجالاً بين الطرفين ولم تزد تلك الغارات والحروب أهالي جبل عامل إلا تكاتفاً وإصراراً على المواجهة وتوسّعت دائرة الصراع بعد أن مد الأمراء الشيعة الحرافشة في بعلبك يد العون لجبل عامل.

وفي عام (1085هـ) قاد الأمير يوسف الشهابي جيشاً جراراً ضمَّ ثلاثين ألف مقاتل وعزم على القضاء على الشيعة في جبل عامل قضاء مبرماً، وفي طريقه أغار على قرية جباع ونهبها، ثم جرت بينه وبين عسكر الشيعة المخيم في النبطية واقعة (كفرمان) التي انهزم فيها الشهابي بفلوله تاركاً أشلاء قتلاه تملأ أرض المعركة، وقد قيل إن لبنان لبست السواد لهذه الحادثة فكانت النساء كالغربان لكثرة القتلى في جيش الشهابي.

الجزّار

تُعدّ فترة حكم هذا المجرم من أقسى الفترات التي مرت على الشيعة في جبل عامل، فقد استقل أحمد باشا الجزار في عكا وكان من أشد الناس بغضاً على الشيعة، وما إن تولّى الحكم حتى بدأ بشن الغارات عليهم، كان آخرها وأقساها وقعة (يارون) وذلك عام (1195هـ)، وفيها انتصر الجزار على الجيش العاملي بقيادة ناصيف النصار الذي قتل في المعركة فتفرق العسكر ودخل الجزار (بشارة) وأباحها لجنده قتلاً وسلباً ونهباً، وهدموا الحصون والقلاع، ثم حاصروا قلعة (شقيف أرنون) لمدة شهرين ففتحت وهدمت فهرب أهلها إلى العراق والشام ولجأ منهم إلى عكا واستأمنوا الجزّار فأمنهم، فلما وثقوا بأمانه غدر بهم وقتلهم شر قتلة تحت التعذيب !!

وبقي الجزّار يتربّص بالشيعة ويقتلهم وقد أدت هذه السياسة الدكتاتورية إلى قيام ثورة بقيادة حمزة بن محمد النصار لكنها قمعت بشدة في واقعة (شحور) عام (1198هـ) وقبض فيها على حمزة وأرسل إلى الجزار الذي لم يفارقه لؤم القدرة على أعدائه فقتل حمزة شر قتلة.

هدنة واستمرار

واستمرت عمليات القتل حتى دخول القوات الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت بلاد الشام، فتنفس فيها الشيعة الصعداء، لكن سرعان ما عاد الجزّار إلى ولايته صابّاً نقمته على الشيعة فزاد في التنكيل بهم، فلم يكن يسمع بكبير لهم أو ذي جاه إلا سلبه أمواله وأودعه غيابة السجون وتحت لهيب السياط والتعذيب، كما طارد علماء الشيعة وتعقبهم قتلاً وسجناً وتعذيباً، وهرب من بقي من العلماء في جبل عامل.

حرق كتب الشيعة

وعزم الجزّار على محو كل أثر للشيعة فجمع الكتب والآثار العلمية والفقهية التي زخرت بها جبل عامل في عصر نهضتها وجعلها وقوداً لأفران عكا مدة اسبوع كامل، ومنها الكتب التي ضمتها المكتبة الكبرى لآل خاتون التي كانت تحتوي على خمسة آلاف مجلد من الكتب والمخطوطات النادرة فأضحت رماداً في أفران عكا، وكان القيم عليها الشيخ علي الحانوتي الذي هرب إلى إيران بعد أن صُودرت أمواله وسُلبت أملاكه، واستمر حال الشيعة في جبل عامل في عهد الجزّار في أسوأ حال لمدة عشر سنين من عام (1209هـ) حتى عام (1219هـ)، هلك فيها الحرث والنسل فكانت أبشع فترة مرت على جبل عامل على مدى تاريخها الطويل حتى أهلك الله الجزار.

اضف تعليق