q

من أهم ما تتميز به الحوزات العلمية هو القرار المستقل لها، لأنه ينبثق عن رؤية مستقلة تهدف بالدرجة الاولى الى موازنة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فلا تسمح للحاكم أن يتنمّر على الشعب، وفي الوقت نفسه تحث الشعب على اداء واجباته تجاه الدولة بأفضل طريقة ممكنة لا تمس بحرياته وحقوقه، هذه الاستقلالية للحوزات العلمية تعد صمام الامان لها من تدخلات الحكومة او الحاكم، فالأخير غالبا يسعى بشتى الطرق، للهيمنة على الحوزات العلمية، حتى يُفقدها ويسلبها دورها الاول الذي اشرنا إليه آنفا، والذي يسعى دائما الى صنع علاقة متوازنة بين الشعب والحكومة، حتى يتحقق الاستقرار الذي يعد من أهم منطلقات وركائز التطور.

وعندما يسعى الحاكم لكسب الحوزة العلمية الى جانبه وتأييد قراراته كلها بما فيها المضادة للشعب، فإنه بذلك يفتش عن سبل كثيرة لمنع استقلالية منهج الحوزات ورؤيتها وقراراتها، ومن هذه السبل، محاولة الحاكم وحكومته إفشال استقلالية مدارس الحوزات العلمية، والتدخل في شؤونها، ومحاولة سلخها من انتمائها للحوزة، والعمل على منع هذه المدراس من الالتزام بتوجيهات الحوزة وتعاليمها ومناهجها.

والحقيقة أن الانظمة المتجبّرة تعرف من أين تؤكَل الكتِف!، فهذه الانظمة تذهب الى اهدافها بخبث، وبطرق ملتوية، لذلك تسعى الى منع استقلالية المدارس التابعة للحوزة العلمية بأساليب كثيرة، إذ يصل الامر الى حد دفع رواتب الطلاب، وجعلهم أشبه بالموظفين الحكوميين التابعين لها، وبهذه الطريقة يضمن الحاكم تأييد طلبة الحوزات العلمية له، فيحقق هدفه في جعل أهم رافد للحوزة تابعا له، ونعني بالرافد هو المدارس الحوزوية التي ترفد الحوزات بالعلماء والخطباء والمحللين والمفكرين والاصلاحيين، لذلك تحاول الحكومات الفردية، أن تسيطر على هذه المدارس وتسلب استقلاليتها حتى تأتمر بأوامرها من خلال الخضوع المادي لها، فيحدث في هذه الحالة ما نصطلح عليه بـ (أزهرة الحوزات العلمية)، في إشارة الى (مؤسسة الأزهر في مصر)، حيث أن رجال الدين ومؤسسة الازهر الدينية بكل مرافقها وتوابعها ورجالها، عبارة عن مؤسسة حكومية والذين يعملون فيها عبارة عن موظفين يعملون لدى الحكومة، فتتم بذلك سيطرة الحكومة التامة على الازهر فيصطف الاخير الى جانب الحكومة، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسية التي قد تكون معادية للشعب.

ولعلنا نعرف أن الحوزات العلمية تقوم عبر مدارسها المستقلة بتخريج أجيال من العلماء والباحثين والخطباء والاصلاحيين والفقهاء، فإن أصبحت هذه المدارس تحت رحمة الحكومات وفقدت استقلاليتها، فسوف يصبح طلابها موظفين لدى الحكومة، وينتهي هنا تأثير الحوزة على النظام السياسي، وهذا بالضبط ما تسعى إليه الحكومات والحكام الطغاة، لذلك قلما نجد علاقة انسجام وتلاقي تنعقد بين الحوزات العلمية والانظمة المستبدة، بسبب ادراك الحوزة المسبق لأهداف الحكومات الفردية القمعية، من هنا غالبا ما تضع الحوزات حواجز قوية بينها وبين مثل هذه الانظمة الفاشلة، فتجعل العلاقة معها ضعيفة، بل ستكون مضادة تماما لهذه الانظمة، الامر الذي يؤدي الى صراع بين الطرفين (الحكومة والحوزة)، يدفع ثمنه رجال الحوزات بسبب عنجهية الحكومات وبطشها الذي يصل في كثير من الحالات الى القتل والتشريد والاعتقالات، كما تدل على ذلك التجارب التاريخية المدوّنة وهي كثيرة ومتشابهة، كلها تؤكد ظلم الحكومات وقسوتها، وشدة بأس رجال الحوزات العلمية ومقاومتهم للظلم.

هذا الامتياز الحوزوي ما كان له ان يتحقق لو لا الاستقلالية التي تتحلى بها الحوزات العلمية ومؤسساتها، ومنها المدارس التابعة للحوزة، لاسيما اذا عرفنا ان عدد الطلاب الذين يتخرجون منها يبلغ الآلاف، وكل هؤلاء يتحولون الى قادة في المجتمع، و ولاؤهم الأول يكون للحوزة، ولا يمكن أن يكون هناك ادنى تأثير عليهم من الحكومة القمعية في حالة بقيت هذه المدارس مستقلة، وهنا تحديدا تكمن اهمية ان تكون المدارس الحوزوية مستقلة تماما عن أي تدخل او تأثير حكومي حتى لو كان قليلا، لأن التدخل والتأثير الحكومي الذي يبدو في بدايته قليلا وغير ذي تأثير، سوف يصبح مع مرور الوقت كبيرا ومؤثرا على استقلالية الحوزة نفسها.

لذلك لابد أن تتخذ الحوزة العلمية، حزمة من الاجراءات والاحترازات والحلول التي تمنع الحكومة من الهيمنة على المدارس المستقلة وعلى الحوزة بشكل عام، ومن هذه الاجراءات والحلول ما يلي:

- تعد استقلالية المدارس في الحوزات العلمية امرا محسوما، ويمثل التدخل الحكومي خطأً أحمر لا يُسمح به في حال من الاحوال.

- لابد للحوزات العلمية أن تشكل شورى لإدارة المناهج وتثبيتها بعيدا عن التدخل الحكومي.

- فتح آفاق الارتباط بين مدارس الحوزات العلمية وبين الجامعات المحلية والخارجية ايضا، لصنع حالة من التكامل بين الجانبين.

- تجديد النظم والمناهج في مدارس الحوزات بما يتناسب والتطورات العصرية التي تعتمدها المؤسسات العلمية الناجحة.

- البحث عن سبل جيدة ومضمونة لتحقيق الاكتفاء الذاتي لهذه المدارس، من اجل ضمان عدم حاجتها للحكومة، لأن الأخيرة كما يُقال، تمتلك يدين إثنتين احداهما قصيرة والاخرى طويلة، فتعطيك باليد القصيرة، وتأخذه منك بيدها الطويلة!.

- تزويد طلبة هذه المدارس بالوعي العميق، لعدم الانصياع للحكومة واساليب الترغيب التي تتبعها لكسب الحوزة ومدارسها وطلابها، ضمانا لـكسب تأييدها، لكن الحوزات العلمية تعي هذا الهدف وتقارعه بقوة كما يثبت التاريخ.

اضف تعليق