q

عندما تتحرك الدول "بواقعية" ضمن سياستها الخارجية وفي إطار العلاقات الدولية، عليها ان تضع ثوابت استراتيجية في تحقيق أهدافها المنشودة، وقد تخضع هذه الثوابت لمعيارين مهمين لا يمكن تجاهلهما:

1. العمل ضمن الحدود والإمكانات المتوفرة للدولة اقتصاديا وسياسيا وجغرافيا...الخ، اذ ان التوسع في الطموح قد يؤدي الى استنزاف الدولة وبالتالي انهيار النظام او الدولة بكاملها.

2. تحقيق الفائدة المرجوة من هذا العمل بما يتناسب وحجم الجهد المبذول فيها بما يحقق للدولة نجاحات متوقعة، والا فان هذه "الثوابت" او "الأهداف" تتحول الى مشاريع عبثية وفاشلة وقد تتحول الى عبء على النظام.

إيران دولة توصف بالبراغماتية، وهي صاحبه مشروع كبير في المنطقة (منطقة الشرق الأوسط)، ولا يتوقف طموحها عند حدود دول الخليج، او العالم العربي، وقد استطاعت (خلال العقد المنصرم) تحقيق العديد من النجاحات السياسية الخارجية، وتوسيع نفوذها الإقليمي في مقابل الدول العربية (وبالأخص امام السعودية العدو التقليدي لها، والتي تحاول بشده كسر او تحجيم قوة إيران في المنطقة)، وهو ما ولد أزمات كبيرة فاقمت الوضع السيّئ في عموم منطقة الشرق الأوسط من خلال تأجيج الصراع القومي والديني والطائفي، ومع ان الولايات المتحدة الامريكية حاولت احتواء تفاقم الصراع بين النقيضين "السعودية وايران" من خلال محاولة التوازن بين الطرفين من جهة، والحث على التقارب عبر مفاوضات مباشرة او عبر وسطاء للاتفاق (على الأقل) حول المشتركات او المصالح التي يمكن ان تجمع البلدين، الا ان الواضح من قراءة التطورات الأخيرة في المنطقة، ان هذا السيناريو، على ما يبدو، لم يكتب له النجاح او الاستمرار (بسبب وفاة ملك السعودية "عبد الله بن عبد العزيز" مؤخرا وقدوم ملك جديد "سلمان بن عبد العزيز" يحسب على التيار الأكثر تحفظا تجاه ايران).

وعملت إيران (ضمن سياستها الخارجية) على توسيع نفوذها في العراق واليمن والبحرين وسوريا ولبنان وفلسطين عبر سياسية دعم "محور المقاومة"، في مواجهة خطر إسرائيل ونوايا الولايات المتحدة الامريكية التي تجدها (وبالأخص لدى التيار المحافظ صاحب السلطة الأعلى في داخل إيران) مريبة وغير واضحة بالنسبة لها، وكان لهذا التوسع لإيران في المنطقة الكثير من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد الإيراني الريعي (يعتمد بنسبة كبيرة على تصدير النفط)، وبالتالي انعكاسه على المجتمع الإيراني في الداخل، خصوصا وان دعم المشاريع السياسية في الخارج ما زال يستنزف الاقتصاد الإيراني امام تدني أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية المفروضة على ايران من قبل الولايات المتحدة الامريكية.

الاقتصاد بين المقاومة والانفتاح

في إيران هناك طريقتان من التفكير السياسي والاقتصادي "بين المحافظين والاصلاحيين"، على المستوى الداخلي (ففي الوقت الذي يطالب فيه الإصلاحيون بمنح المزيد من الحريات العامة ورفع القيود المفروضة على الاعلام والانترنت، يحاول المحافظون احكام قبضتهم في منع تحقيق هذه المطالب)، والخارجي (اذ يتحرك الرئيس الإصلاحي "حسن روحاني" نحو تحقيق تقارب وانفتاح في العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة الامريكية، بينما يتحرك المرشد الأعلى للثورة في إيران "خامنئي" باتجاه دعم حركات المقاومة التي تكن العداء للغرب وتحديدا للولايات المتحدة الامريكية)، وقد امتد الخلاف بين الطرفين وطريقة تفكيرهما نحو الاقتصاد أيضا، ففي حين يرى الرئيس روحاني ان الانفتاح السياسي مع دول العالم الأخرى، سيعطي زخما قويا لاقتصاد ايران المتضرر جراء العقوبات الاقتصادية العالمية المفروضة عليه منذ سنين طويلة، فايران غير قادرة بمفردها وبمعزل عن العالم ان تكون اقتصادا قويا يوفر لها مكانة سياسية مهمة في المنطقة.

بالمقابل، فان المرشد الأعلى، (في ذات الوقت الذي يحاول فيه روحاني التواصل مع الغرب وفتح قنوات تواصل دبلوماسية وربما الى عقد اتفاق نووي تاريخي ينهي العداوة القائمة بين إيران والغرب) كان قد انتهى من صياغة نظريته الخاصة "باقتصاد المقاومة"، التي تحث على الاكتفاء الذاتي ومجابهة الهيمنة الاقتصادية او النظام الاقتصادي العالمي الذي يجبر الدول المنضوية تحته على مد يد العون لدول أخرى، وكان لهذا الخلاف أثرا كبيرا في عكس وجهات النظر المتباينة بين الطرفين، سيما وان هذا الاهتمام المشترك بتحصين الاقتصاد الإيراني توضح مدى جدية الهواجس التي تدور في أروقة صنع القرار الإيراني حول مصير هذا الاقتصاد الذي تضرر كثيرا بفعل العقوبات وانخفاض أسعار النفط.

وبالتالي فإن عملية احداث الموازنة بين المتطلبات السياسية الخارجية وتحصين الاقتصاد الإيراني بات مطلبا حيويا بالنسبة للرئيس الإيراني، خصوصا وان التضخم والبطالة وتوقف العديد من المشاريع الاستثمارية وغيرها، وانخفاض أسعار النفط مع تخمة المعروض في الأسواق العالمية، أدت الى تململ واسع النطاق داخل المجتمعات الإيرانية التي تطالب بتحقيق الرفاهية والانتعاش الاقتصادي، بعد ان اتسعت الهوة بين السياسية الخارجية والاقتصاد المترنح تحت وطأة العقوبات وأسعار النفط وحروب الاستنزاف.

اضف تعليق