q

كأنه يتهادى على شاطئ نهر باذخ الجمال، أو في حديقة غنّاء بساطها أخضر وعنوانها الزهور، رأيته يخطو على الرصيف ذات صيف، الإسفلت يحرق باطن قدميه، والشمس تصبّ نارها على قحفة رأسه، لكنه لا يشعر بكل هذه الإساءات الطبيعية، يمشي بخطوات طفل، يتلذذ في مشيه على الرصيف، كأن الشمس متفضلة عليه وهي تجلده بسوط حرارتها التموزية المجنونة.

جميع الناس، صغارا وكبارا، يحتمون من نار الشمس في أي ظل حتى لو كان ظل شجرة، بعضهم يتنعم بنسيم المكيفات الهوائية، بعضهم يتلذذ بالماء المثلّج مع أنه جسمه لا يتفصَّد عرَقا، إلا هذا الفتى (فاقد العقل)، فإنه لا يعبأ بجنون الشمس ولا يبحث عن ظل ولا يعنيه الماء البارد بشيء، رأيته بملابس ممزقة وشعر مجعَّد مهمل وأنف تملأه الأوساخ وفم يسيل زبَداً وعينان ينزُّ منهما القذى، وجسد شبه عارٍ، نحيف، أضلعه ناتئة، حافي القدمين.

ومع هذا كله يتهادى الفتى (المجنون) على رصيف الشارع كأنه يخطو على (كورنيش) نهر عريض هادئ تبوس سطحه النوارس البيض بين حين وحين، وتحلّق فوق مائه بجمال، رأيت هذا المنظر قبل أكثر من عشرين عاما ورسخ في ذاكرتي، وبعد ذلك المشهد أخذتني الدنيا الى أماكن وأزمان أُخَر، جالت في مدن غريبة وقريبة، وبعثرتني في بلدان ما كلن يخطر في بالي إنني سأخطو فوق أرضها يوما، ولكنني نفيتُ نفسي، تغربت، وعشتُ ما يشبه الجنون في تلك الأرض الغريبة، وبعد سنوات مريرة، طرّزتها عذابات الليالي الطويلة والنهارات القابعة في مستنقع القهر.. عدتُ أدراجي، كأنني لبّيتُ رغبة الجنون، فأهدرتُ ما لم يهدره بشر كما يقول أحد الشعراء.

عدتُ الى المكان الذي دُفنَ فيه حبلي السرّي، فوجدتني بعد عشرين عاما أمام المنظر نفسه، منظر الفتى المجنون الذي لا يعرف من الدنيا سوى البقاء حيا، حرا، طليقا، لا تعنيه حروب البلاد ولا حروب العالم، لا تعنيه المجاعات ولا الزلازل ولا الفيضانات ولا البراكين الثائرة ولا المفاعلات النووية التي ملأت الأرض، بحيث أصبحت قوتها التدميرية قادرة على أن تفني الأرض وما فيها مرات ومرات، هذا الفتى يعيش جنونه، لا يعنيه شيئا في هذه الحياة، لا يعنيه الإنسان كيفما كان، ولا حتى الحيوان، لا يعنيه الشبع أو الجوع، لا يعنيه الغنى أو الفقر، لا يعنيه العدل أو الظلم او البذخ والتقتير، لا يعنيه ظلم الأقوياء للضعفاء أو الحكام لشعوبهم، إنه يكاد يكون الإنسان الحر بصورة فعليه في هذه البلاد.. وقد تكون هذه نعمة ما بعدها نعمة!.

في الطريق نفسه، وعلى الرصيف نفسه، رأيته بعد أكثر من عشرين سنة، يخطو في المكان نفسه، بالجسد النحيل والشعر المجعّد والأضلاع الناتئة والأنف الممتلئ بالرشح الرصاصي والأقدام اليتيمة من النعل أو الحذاء، قررتُ هذه المرة أن أكون قريبا منه، أن أتحدّث معه بأية لغة يفهما، أن أمسك ذراعه كي أتأكد هل هو بشر مثلنا، كيف يعيش هذا العمر الطويل بلا كلام، بهذا الموت المستمر البطيء، كيف يعيش بلا توقّف للحظة، إنه دائم السير، لم أره لحظة متوقفا عن المسير لأي سبب كان، نزلتُ من سيارة الأجرة اليومية التي كانت تأخذني عنه بعيدا، وخطوتُ إليه، صرت على مسافة قريبة منه، متر واحد يفصلني عنه، دقّقتُ النظر في عينيه، إنهما عينا إنسان، نظرتُ الى وجهه الذي لم يختلف عن وجوهنا، تطلّعتُ الى جسده الذي لا يختلف عن جسد الآدمي، سألتُ نفسي هل يتعرض هذا الكائن (فاقد العقل) الى الظلم من بني جلدته، من الناس الذين يعيش بينهم، ويرونه في كل يوم وهو دائم المسير في الصيف والشتاء، في كل فصول السنة، يجلده الحرّ القاتل، ويصعقه هواء الشتاء وصقيعه، ولا ربيع في حياته فيما الخريف يحيط به في كل الفصول.

وجاء الجواب.. ليس من الفتى المجنون الذي أصبح اليوم في خريف العمر.. يتمشى على الرصيف نفسه بلا توقّف ولو لمجر سحب الأنفاس، بل أعماق الإنسان حيث أجاب بأننا قُساة لا رحمة في قلوبنا ولا عدل في ضمائرنا، ولا رأفة في نفوسنا، وإلا كيف يعيش بيننا إنسان أربعة عقود متتابعة ولا نمد له يد العون، ولا نكلف أنفسنا بحمايته من البرد أو الحر او الخريف، لم أر طيلة هذه السنوات أحداً أعطاه قنينة ماء، مرة رأيته قرب بركه آسنة، ماؤها راكد تلبط فيه الديدان المختلفة، كان الفتى يعاني العطش، غادرتُ السيارة على عجل، جلبتُ له الماء النظيف لكنه لم يأخذ مني لأنه لم يعد بحاجة إليه، لقد وصلتُ إليه متأخرا، كان قد مدّ كفيه في ماء البركة الآسن وشرب منها ما يروي ظمأهُ، هذه هي رحمتنا بالإنسان، وهكذا نطبق ما أوصانا به الدين، أن نرأف بالحيوان ومن باب أولى أن نرأف بالإنسان.

صرتُ قريبا منه، دققتُ النظر في وجهه، كبرَ الفتى المجنون، أو بالأحرى شاخ وتجعّدَ وجهه، ملأت الأخاديد جبينه ومساحة وجهه كلها، واستطال شعرُ حاجبيه حتى غطى نصف العينين فصار يحجبُ عنه الرؤية، على الرغم من أن بصره ضعيف وكليل أصلا، شاب شعر رأسه، نحف جسمه أكثر وأكثر، تفطّرت قدماه، ضمر هذه الجسد الذي كان شابا في يوم ما، مرت عليه عشرات السنين وهو في قطيعة عن الناس، لا يتحدث مع أحد منهم، ولم يؤذِ أحدا بل لم يؤذِ حيوانا أو حتى حشرة، والغريب أنه لم يبدو في يوم ما، ناقما أو ساخطا أو منزعجا من أحد.

وصل الفتى المجنون الى نهايات العمر، خطواته المتعبة البطيئة توحي بذلك، وأنفاسه القصيرة اللاهثة، وانغلاق عينيه الى النصف، وهزال جسمه المستمر، كل هذه علامات تشي بقرب النهاية، ومع ذلك لم يفكر أحد بهذا الكائن الصامت المؤّدب المكتفي من هذه الحياة بالسير على الأرصفة وبالصمت لا غير، ولا أبالغ أنني طيلة هذه السنوات التي فاقت العقدين، لم أره مرة واحدة يتناول فيها الطعام، أي طعام كان، حتى أنني كنت أتساء، هل يأكل الهواء، لم يفكر الإنسان العاقل الغني المتدين المثقف المفكر الإنساني المسؤول، هؤلاء كلهم لم يفكروا في هذا الكائن، مع أن الحكومة باستطاعتها أن تقدم له ما يحفظ كرامته وإنسانيته، كذا لم يفكر الأثرياء بذلك، ولا المثقفون ولا المقتدرون على حمايته من ظلم الحياة.

في النهاية، أتساءل باستغراب وذهول، ماذا يعني هذا، ألا يعني أننا كبشر لم نعد نشعر بغيرنا إطلاقا، ألا يعني ذلك أن الرحمة غادرت قلوب ونفوس الغالبية أو الجميع منا، ألا يعني هذا أن الحكومات التي تعاقبت على عمر هذا الكائن كلها حكومات فاشلة ودليل فشلها أنها لم تستطع أن تنتشل هذا الكائن الفاقد للعقل من غربة الأرصفة وقسوة الفصول الساخنة والباردة والجوع والإهمال والكثير الكثير.

ثمة سؤال أخير.. ألم نعش عصرا لا يستحق أن نسميه عصر الحضارة، أو عصر الإنسانية، كما يحب أن يتشدق بذلك كثيرون من سكان الأرض؟؟.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
العراق
اذا كان إهمال المجنون مدعاة لانعدام الحضارة، فما بالنا بإهمال العقال الكثر في بلادنا...؟ الطفل، المرأة، الشيخ الكبير، وهم يتوزعون أمامنا بين باعة في الشوارع او متسولون و... القائمة تطول، مع تحياتي وتقديري للكاتب العزيز.2016-12-24