q

لم يجن العراقيون من مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي -وعلى رأسها الفيس بوك- سوى الويلات الفكرية والانحدار بالوعي الجمعي والانحطاط بمستوى الرأي العام، فرغم "الايجابيات الظاهرية" لهذه المواقع الا ان دورها داخل العراق هو سلبي في الاعم الاغلب.

كنا ننظر لموقع مثل الفيس البوك على انه سلاح المستضعفين الذين لا يملكون وسيلة للتعبير عن مشاكل البلد، بعد ان تحولت وسائل الاعلام التقليدية الى ابواق للقوى السياسية حصرا، ولكن الشعب لم يهنأ طويلا بهذا المتنفس الجديد، فسرعان ما تمكنت احزاب السلطة من السيطرة على الرأي العام العراقي في الفيس بوك ايضا، ووجهت جزء من اموالها -التي تغدقها سنويا على اجنحتها الاعلامية- نحو مواقع التواصل الاجتماعي.

لقد انقلب الفيس بوك في مدة بسيطة الى اداة قمع فكري للشعب العراقي، وبصورة معاكسة لما كنا نأمله من هذه الوسيلة، فالحرية والسهولة والسرعة الهائلة التي يتمتع بها هذا الموقع جعلت البعض منا يعلق عليه آمال كبيرة لإنتشال البلد مما هو فيه من انحدار في الوعي... لكن الآمال تبددت.

فكيف يمكن لمجموعة من الناشطين والصحفيين المستقلين على صفحات التواصل ان يواجهوا جيوش الكترونية ممولة من احزاب السلطة تعمل ليل نهار لإغراق المحتوى الالكتروني العراقي بآلاف الصور والمقاطع والاخبار التي تهدف الى التضليل والتشويه والتحريف والكذب المتواصل مستغلين العاطفة الدينية أو المشاعر القومية، ومستخدمين اساليب تجذب وتثير المتلقي عن طريق الاعتماد على مختصين "متفرغين" في مجال التصوير والتصميم والمونتاج....الخ.

لقد تحول "الرأي العام" العراقي الى "مسخ" بعد سيطرة هذه الجيوش الرقمية. ووصل الوعي الجمعي العراقي الى مستوى من الضياع جعلنا نتساءل: ماذا يريد العراقيون؟ ما هي اولوياتهم؟ ما هي مطالبنا الحقيقية من السلطة الحاكمة؟. حيث تمكن "خفافيش الفيس العراقي" من ادخال الشعب في حالة توهان دائم، وتركته وسط دوامة من التناقضات السياسية والاجتماعية المعقدة، حتى بتنا لا نعلم "ماذا نريد؟"، ومع أي صف نقف؟.

ان دوامة التوهان والتناقضات وفخاخ "الدعاية الفيسبوكية" قد دخل فيها الأكاديمي والمثقف قبل غيره من فئات الشعب، وصار من الطبيعي ان تقرأ تعليق لأستاذ جامعي يرد فيه "بحماس" على صورة او مقطع فيديو دون ان يعلم انه مزور، على الرغم من أن التزوير واضح جدا ولم يتم بحرفية على الاطلاق.

لكن وللإنصاف لا يمكننا ان نعاتب هذا الاكاديمي وذلك المثقف لسقوطه في فخاخ التضليل الاعلامي عبر شاشة الموبايل، لأنها فخاخ عديدة ومتنوعة تُنصب لنا على مدار الساعة، وليس باستطاعة أي انسان ان يقاوم الموجات الدعائية الهائلة إلّا ما ندر من اهل الخبرة والاختصاص في مجال الحرب النفسية والدعاية السوداء، وحتى هؤلاء المختصون يسقطون احيانا في هذه الفخاخ دون ان يشعروا.

قد ينتفض البعض ويدّعي ان الفيس بوك "سلاح ذو حدين" وله في العراق ايجابيات كثيرة، ويسطّر لنا عشرات النقاط عن ذلك، وهو امر صحيح بلا شك، ولكنها ايجابيات بائسة مقارنة بالسلبيات المدمرة لهذه الماكنة الاعلامية العملاقة، كالذي يحاول ان يبين ايجابيات الحروب!، او يشرح لنا فوائد تكنولوجيا صناعة الاسلحة ومساهمتها في خدمة الاغراض السلمية!، حيث يوجد فعلاً ايجابيات وفوائد للحروب وصناعة الاسلحة، ولكنها هامشية وفرعية لا تقارن بالغرض الاساس من افتعالها والنتيجة النهائية لها وهو الدمار للبشرية من اجل خدمة رؤوس الاموال المتحكمة في العالم.

هذا الفرق بين حجم الايجابيات والسلبيات ينطبق تماما على دور الفيس بوك داخل العراق.. فهل ساهم هذا الموقع في الحد من الفساد؟ او توعية الناس لاختيار الافضل في الانتخابات؟ او التسريع في عجلة التنمية؟ او زيادة وعي المواطن باحترام القانون والحياة المدنية والابتعاد عن الاعراف القبلية؟ او عمل على بروز قيادات سياسية بديلة عن الموجودة حاليا؟ او حثّ الشباب على احترام قيم العمل والجد والاجتهاد لبناء البلد؟... هل ساهم الفيس بوك بالضغط على الحكومة لتلبية جزء بسيط من اساسيات الشعب العراقي؟ هل صارت الطبقة السياسية الفاسدة والمتخلفة تخشى العراقيين بسبب الفيس بوك؟ هل لعب هذا الموقع دور في الارتقاء بالقيم الاخلاقية والاجتماعية في البلد؟

والتساؤل الاخير والأهم : هل خلق الفيس بوك "رأي عام عراقي" واعٍ يؤثر على صنّاع القرار في السلطة المركزية والحكومات المحلية؟

ان الاجابة بـ"كلا" غير كافية... لأن هذه المواقع قد لعبت دور في تعميق الوضع المزري للبلد اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وامنيا، وذلك للاسباب الرئيسة الاتية:

1- ساهمت مواقع التواصل في ابعاد الوعي الجمعي العراقي عن (اولوياته) وحاجاته الحقيقية: هل هي توفير الخدمات؟، أم النهوض بالاقتصاد؟، القضاء على البطالة؟، فتح باب الاستثمار؟، الامن؟، أم الدفاع عن المذهب او الطائفة؟، او زيادة الحريات ودعم الثقافة والفنون وفتح الملاهي والبارات؟، أم محاربة امريكا؟، او الدفاع عن الشخصيات الدينية والسياسية "المقدسة"؟....الخ، حيث لم يعد لدى الرأي العام أي وعي بترتيب الاولويات بل تشتت بين صفحات الفيس ومجموعات الواتساب ضمن مخطط دعائي معد له بحرفية عالية من قبل الطبقة السياسية.

2- نجحت مواقع التواصل بجدارة في الحفاظ على سلطة الاحزاب وتعميق سيطرتهم بدل ان يتم اسقاطهم نتيجة الفشل الذريع في ادارة الدولة العراقية، حيث انجذب العراقيون الى واجهات سياسية معينة بعد ان قامت صفحات الفيس بتلميعهم وابرازهم كأبطال عقائديين شجعان مدافعين عن الدين او القومية، ودخل العراقيون في صراع شكلي وصبياني مثير على الفيس بوك بين انصار زعيم حزب وآخر، مما زاد من حدة الاستقطاب ودفع الناس الى الاصطفاف تجاه الاحزاب التي اقتسمت "كعكة الرأي العام" فيما بينها، فابتعد الشعب عن حقيقة التحالف التأريخي بين كل اطراف العملية السياسية، ولم يدرك اغلبية الناس ان ما يحدث هو مجرد صراع "فيسبوكي" استعراضي بين السياسيين هدفه تمزيق الرأي العام والحيلولة دون اتحاده ضد جميع الكتل السياسية الحاكمة بلا استثناء.

3- خلق الفيس بوك "حراك مجتمعي وهمي"، وصار مجرد اداة "تنفيس" لا تغني ولا تسمن، فالحراك الحقيقي والمؤثر يتطلب نزول الى الشارع وتأسيس منظمات مجتمع مدني من رحم الشعب وتشكيل "مجموعات ضغط" على ارض الواقع تستخدم كل ادوات الضغط السلمي على صناع القرار. لكن مواقع التواصل خلقت شعور وهمي لدى المواطن بأنه يساهم في الحراك المجتمعي ضد الفساد والتخلف الاداري، فابتعد عن الشارع معتقدا ان للمنشور على صفحته تأثير معين، في حين انه لا يرقى لمستوى "قطرة في بحر" حتى لو وصل عدد المتفاعلين معه عشرات او مئات الالاف... وهذه الحقيقة لا يعيها الكثيرون داخل الفضاء السايبيري اللانهائي والمعقد لمواقع التواصل.

ختاماً ومن أجل "المصداقية"، فان الكاتب لن يقوم شخصيا بنشر هذا المقال على صفحات الفيس بوك ولا يدعو احداً لفعل ذلك. وهي دعوة لكل عراقي ان يتجه الى قراءة الموضوعات على "المواقع الالكترونية التقليدية" لأن مستوى السطحية والتضليل والكذب والدعاية السوداء فيها اقل بكثير من مواقع التواصل الاجتماعي.. فبعد ان هجرنا الكتاب ثم الجريدة والمجلة لنتجه الى "المواقع الاخبارية" و"مواقع الرأي" التابعة لمؤسسات اعلامية معروفة، فرغم تبعية هذه المواقع وعدم حياديتها واستخدامها لأساليب الدعاية السوداء ايضا -وهذا أمر طبيعي- إلا انها ترفع مستوى الوعي نسبيا وتنتشل العقل من السطحية المفرطة والظلمات اللامتناهية للفيس بوك الذي يقبع اليوم تحت سيطرة الجيوش الالكترونية التابعة لكتل واحزاب وقوى وشخصيات سياسية، وتحول من اداة اعلامية للمستضعفين والمستقلين الى ماكنة تضليل مرعبة يتحكم بها الكبار فقط.

* باحث اعلامي

اضف تعليق