q

تحولت المطالبات بـ (ضرورة) الفصل بين الدين وكل مفاصل الحياة، من إطارها التنظيري العام، إلى أطر الممارسات النقدية، بعد أن تجاوزت تقليديتها منفتحة على حقول معرفية تمس العلوم الإنسانية، غير أن هذا الفصل النقدي، أو المطالبين به ومنهم (إدورد سعيد)، جاء وفق النظرة الغربية للنقد، وآليات ممارسته وتطبيقه.

إن التحولات الفكرية التي تحدث في العالم اليوم، والتي أفرزت (عودة دينية) بحسب الفهم النقدي، لاتعني بالضرورة أن حضور الدين في العملية النقدية، هو من المعطيات الواقعية لهذه التحولات. هذه الفكرة يراد تسويقها بهدف علمنة النقد، وإضفاء المشروعية التاريخية والفكرية لهذه العلمنة المستحدثة.

قد نعترف بقصور النقد العربي تارة، أو تبني النقاد العرب للمناهج والمفاهيم المستوردة تارة أخرى، بمساعدة جهود تأصيل مفهوم (النقد العلماني) بشكل مباشر أو غير مباشر.

فالتأصيل غير المباشر؛ جاء نتيجة السياسات القامعة في عالمنا العربي، حيث سد كل الدروب على مسايرة التطور والانفتاح، وإشغال الشعوب عن كل ماهو علمي ومعرفي يفضي الى اندماج مع المستحدثات في شتى المجالات، أما التأصيل المباشر، فهو - كما ذكرنا - ؛ جاء بسبب رسوخ قناعة اللامنهج عند النقاد العرب، وهي في الحقيقة قناعة تبدو واقعية، لكنهم، - النقاد - لم يبحثوا بشكل جاد عن مسببات قصور المنهج النقدي عدا استثناءات قليلة جداً، بل أن أكثرهم وجد في إشكالية غياب المنهج فرصة لاستيراد الجاهز النقدي، متغافلين عن تشدده في قضية جوهرية كقضية الدين.

وحتى من خلال الأجناس الإبداعية، كالشعر والسرد والمسرح، والتي يدخل النقد - من بوابته الأدبية - فيها، لن تنجح فكرة تأطير النقد بإطار علماني ؛ لأن هذه الأجناس هي نتاج تفاعل المبدع مع محيطه، وفكرة إبعاد الدين عن المحيط الكلي، تأكدت استحالتها إثر الانهيارات الفكرية المتلاحقة لنظريات ومناهج قامت على أحادية الإقصاء لتمظهرات العقائد الدينية، فمنتج النص الإبداعي، هو نتاج التفاعل الحضاري، والتموضع الإنساني، داخل العقل الجمعي.

وحتى مع بعض المشاريع التي تعتمد الـ (أنا) والفردية، كثيمة لمنجز ابداعي، لم تستطع من ممارسة هذا الإقصاء ؛ حيث أدرك المشتغلون بهذه الثيمة، أن الإقصاء سيجعل من منجزهم عبارة معنى متفلت، لن يوصله قارب الفوضى بصفة أمينة.

لاينبغي للعملية النقدية برمتها أن تخضع لمُسلّمات النقاد، في حال ثبوت رسوخها في قبول محض، او رفض محض، فقد يكون الناقد كائناً مهادناً أو مشاكساً لما يتعلق بالخطاب الذي يتبلور ويتفاعل مع محيطه.

فوضوية التأليه الحداثي

إن أهم إفرازات التأطير الأحادي للمارسة النقدية، كانت في إعلان مفكري الحداثة ونقادها، عن بدء مرحلة جديدة في عالم الفكر، فجاءت نظرية (موت الإله)، وقدَّم الحداثويون أنموذج (العقل الإله) كبديل، على اعتبار أن العقل الإنساني يمكن أن يقود البشرية، بدليل التقدم التكنلوجي، لكنهم ومع إيمانهم المفترض بالحركة والتطور، لم يحسبوا حساباً إلى (مابعد حداثتهم) التي زعزعة سلطة العقل الذي أعلنوه إلهاً، فوجدوا أنفسهم ينتقلون إلى تأليه الذات، فكلٌّ إله وله أتباع ومريدون، وله معارضون كافرون به.

وللإنصاف، فإنَّ بعض الممارسات الكنيسية الخاطئة ولَّدت ردود أفعال معاكسة، كان من أبرزها نشوء العلمانية وماتشظى عنها من مسميات ومفاهيم أربكت الوجود البشري، قبل أن تسجل تراجعها الطبيعي.

ومن الصحيح القول أن كل فكرة او إيديولوجية تنطلق من العقل، وهو مكان تموضعها، لكن الإفرازات التي ستنتجها، هل ستكون منطقية وعقلانية ؟ في الحقيقة لايمكن التسليم بالتكامل، فهذه الأفكار مجرد وسائط مُنتجة، أما مايفرز عنها من رؤى وتصورات، فهو مشروط بقدرة الناقد (المُنتج) في إقناع المتلقي (المستهلك) ببضاعته النقدية أو الفكرية، بعد إخراجها من المخزن الذهني (العقل)، وطرحها في سوق الواقع، والذي سيعرضها على أنها حقائق وليس مجرد تنظيرات.

وأمام رجوع الخطاب الديني ناقداً لآليات الحداثة ومابعدها، لم نلمس من النقاد والمفكرين دوراً يمكن أن يدافعوا به عن مقاصدهم النقدية، بل ظلوا يكررون ذات المبررات التي أدت إلى كساد بضاعتهم الأولى، بينما كان يمكن لهم أن يعيدوا النظر في دور الخطاب الديني، وبموقفهم في عزله عن الممارسة النقدية.

كان على هؤلاء الالتفات إلى إمكانية الخطاب الديني الحضاري إيجاد الحلول لمشاكل الإنسان المستعصية، بعد أن عجزت نظرياتهم عن ذلك، وكأنها مصداق للمقولة الشهيرة : " القليل من الفلسفة ؛ يؤدي إلى الكفر، والكثير منها ؛ يؤدي إلى الإيمان ".

إذن، كانوا ملتفتين للخطاب الديني بنا ينسجم مع (الفلسفة القليلة)، وبالتالي ؛ حصلوا على اللاجدوى.

إدورد سعيد والانشطار

يمثل المفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل (إدورد سعيد) أنموذجاً لتجلي الصراع بين المنهج النقدي، وبين الإيمان الحقيقي بفكرة ربما لم يسعفه الوقت - على أحسن الظن - في التصريح بها.

فالرجل وبالرغم من برتوستانيته، يعد من الذين أنصفوا الإسلام في أحد أهم كتبه وهو ( الإستشراق )، بل انه صرّح بعنصرية الماركسية، ووجه نقودات لاذعة لكارل ماركس، وهو الأمر الذي جعل كثير من الذائبين في الآخر إلى مهاجمته ومنهم (محمد اركون).

لقد عبّد (إدورد سعيد) الطريق لدراسة الإسلام أكاديمياً في الجامعات العالمية، لدرجة أن بعض المناوئين له يعتقدون بإسلامه، وأنه أخفى هذه القضية - تبدو مستبعدة - خوفاً من ردود فعل أقوى من تلك التي صدرت على ماتبناه في كتبه (الاستشراق وتغطية الإسلام).

لكن، ومع كل مافعله الرجل، ماهو سر الإصرار على أطروحة النقد العلماني، وكأن الانشطار في الرؤية متلازم مع انصاف لايُنكر، خصوصاً في قضية الدفاع عن الرسول الكريم (ص)، وفضح النظرة الغربية الدونية والمتعنصرة تجاه العرب والمسلمين، في الوقت الذي تماهى فيه غيره من المفكرين، مع الرؤية التفسيرية الغربية لقضية الوحي!.

اضف تعليق