q

إن التساؤل الذي يستدعي الإثارة هو مدى فاعلية العنف ونجاحه في إحداث التغيير الجذري الشامل الذي يعقبه استقرار وهدوء سياسي واجتماعي واقتصادي. هذا الأمر هو الذي يطرح التمايز بين حركتي العنف والإصلاح حيث (إن أهم الفروق بين الحركات الثورية والحركات الإصلاحية في وسيلة التغيير تتمثل في: إن الإصلاح والتطور يأتي بالوسائل السلمية أما الثورة فإنها تتم عادة باستخدام العنف الشعبي، وفي سرعة التغيير حين يتم ببطء في حركات الإصلاح بينما يتمّ في حالات الثورة بسرعة فجائية)(1).

العنف في اللغة

إن دراسة منهج العنف وتتبّع دلالاته اللغوية والعرفية والعقلية واستقصاء آثاره السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية يمكن أن يعطينا بعض العينات والنتائج التي قد ترشدنا إلى معرفة تأثير العنف في حركة التغيير.

يقول صاحب لسان العرب: «العنف الخُرق بالأمر وقلّة الرفق به وهو ضدّ الرفق، وهو عنيف إذا لم يكن رفيقاً في أمره، وفي الحديث أن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشرّ مثله، والخُرق بالضم: الجهل والحمق، والعنيف الذي لا يحسن الركوب وليس له رفق بركوب الخيل».

وقد قال رسول الله (ص): «الرفق يُمْن والخُرق شؤم» (2)، وقال أمير المؤمنين لولده الحسين (عليهما السلام): «يا بني رأس العلم الرفق وآفته الخرق» (3).

الدوافع لنشوء العنف

إنّ معرفة أسباب العنف والدوافع التي تحرّك الفرد أو الجماعة لاستخدامه يمكن أن ترفدنا بالمؤشرات اللازمة لفهم مدى قدرة أسلوب العنف في إيجاد التغيير الفعال.

تختلف الدوافع نحو العنف حيث يعزو علماء النفس وجود العنف إلى مجموعة من الأسباب منها أن العنف طبيعة عدوانية متجذّرة في الإنسان حيث أن (القوة عامل طبيعي مرتبط ارتباطاً وجودياً جوهرياً بكلِّ كائن حي بمعنى أن تأكيد الحياة في الحيز الطبيعي لا يمكن أن يحصل بدون القوّة وظاهرة تأكيد الحياة هذه نجدها في مختلف أشكال التنازع والانتقاء البيولوجيين(4). ولكن الإنسان كائنٌ عاقلٌ مختار يختلف عن باقي الكائنات بكونه متحكّماً بغرائزه لذلك استطاع الإنسان (أن يكبح جماح العنف وذلك بإخراجه من دائرة الطبيعة إلى دائرة العقل فلو بقي الإنسان في دائرة الطبيعة لا يرى سوى حقيقته المطلقة التي ترسمها له مصالحه الفردية وقوّته وحاجاته لأصبحت حياته عنفاً مستمرّاً والحياة الاجتماعية لا تطاق، غير أن العقل البشري يدخل عنصر الحوار في علاقة الفرد مع الآخرين فينشأ بذلك مبدأ المفاوضة والعقد الاجتماعي ومجموعة القواعد والنظم والمؤسسات التي من شأنها تنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتراجع حياله العنف الطبيعي إلى حدّه الأدنى(5). فالعنف يمثل استثناءً في حياة الإنسان الكائن الاجتماعي عندما لا تستجيب المؤسسة الاجتماعية لمصالحه التي يراها حقوقاً مشروعة لنفسه، يقول ايريك فروم: «إن العنف والتدمير يمثلان الناتج التلقائي والحتمي للشعور بالإحباط الذي ينشأ عن الصدمة الناتجة عن خذلان الآمال والتطلّعات لسببٍ أو آخر»(6).

الإحباط والعنف

والإحباط يشكل سبباً رئيسياً في نشوء العنف عند علماء النفس باعتبار أن (الإحباط حالة مؤلمة تنزع الذات إلى أبعادها وإلى الخلاص من الضغط الذي ينجم عنها ويكون العدوان أحياناً السلوك الدفاعي للذات في سعيها وراء الخلاص من ضغط الإحباط)(7). والإحباط حالةٌ من اليأس القاتل الذي يستولي على الإنسان فتسلبه قدرة التفكير المنطقي السليم وتدفعه إلى اتخاذ مواقف غير طبيعية لا يمكن التكهّن بنتائجها لذلك لا يشكل العنف سلوكاً عقلانياً نابعاً من وجود استقرار نفسي يوفّر الأجواء الطبيعية المناسبة، فالعنف سلوك غريزي هدفه تفريغ الطاقة العدوانية الكامنة داخل الإنسان وان الإحباط سبب العدوان وكلما زاد الإحباط زادت حدّة العدوان)(8).

الاستبداد والعنف

ويرى البعض أن العنف ينشأ من اختلال النظام السياسي الذي ينظم العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين مختلف قطاعات المجتمع وخصوصاً العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فعندما تختلّ التوازنات التي تحافظ على استمرارية النظام يلجأ البعض إلى العنف للحفاظ على مصالحه أو استعادة حقوقه التي يراها قد سلبت منه. ويمكن تلخيص هذا الأمر بعبارة وجيزة وهي: افتقاد أجواء الحرية والقدرة على التعبير والحركة، وسيطرة الاستبداد والشمولية، وتمركز القوّة وقمع التعدّد الفكري أو السياسي، ولهذا فإن (غياب القنوات الوسيطة أو عدم فاعليتها التي تقوم بتوصيل المطالب وتنظيم العلاقات بين الحاكم والمحكوم وعدم اعتراف الأنظمة الحاكمة بمبدأ المعارضة السياسية وتعقب العناصر والقوى المعارضة بكل الأساليب دفعت بعض القوى الاجتماعية والسياسية إلى الانخراط في أعمال العنف، فعندما لا توجد قنوات للتعبير الشرعي ينفتح الباب أمام العنف)(9).

ففي (عالم لا تجد فيه الجماعات مكاناً لقيمها وحرياتها وحقوقها المشروعة لا يسعها إلا أن تجد في قضيتها الحقيقة المطلقة ولا تعود تؤمن إلا بها فتنقاد إلى استعمال الإرهاب كحلٍّ أخير تلوح فيه بوارق الأمل)(10).

فغياب القدرة على التعبير السلمي الحر يجر الجماعات والأفراد إلى الوقوع في حلقة متسلسلة من أعمال العنف قد لا تنتهي بسهولة وتزيد من الوضع القائم سوءً. ويحاول البعض أن يرمي معظم اللوم في نشوء العنف إلى الأنظمة السياسية المستبدة التي تمارس الحكم بالعنف والقمع والإرهاب، ذلك أن (إرهاب الدولة نظراً لشراسته وتأثيره الواضح والعميق يشكل السبب الرئيسي لنشوء العنف عند الأفراد وبالتالي لنشوء إرهاب الضعفاء، إذ طالما هناك حكومات قادرة على التفرّغ لممارسة الإرهاب فإن الإرهاب المضاد يبقى الرّد الوحيد والممكن من قبل ضحاياها)(11).

ولكن ردّ الضعفاء هو في الغالب ردّ فعل غير مدروس منبثق من حالة اليأس والشعور بالعجز وافتقاد القدرة على ممارسة أي تكتيك آخر يمكن أن يواجه تلك الأنظمة الشمولية، والحال أن العنف غير قادر على شلّ تلك الآلة القمعية إن لم يزد في ضراوتها، ففي (النظام التوتاليتاري يبدو إرهاب الضعفاء عاجزاً عن النمو والتأثير الفعّال وبذلك بمقدار ما تستطيع قوى القمع أن تقضي على كلّ مقاومة أو معارضة)(12).

ويضع البعض مؤشراً قياسياً على إحصاء الدلائل التي تشير إلى أسباب نشوء العنف حيث ترتفع في النظم الاستبدادية و(ينخفض في النظم الديمقراطية نظراً لوجود مؤسسات سياسية وسيطة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتضبط الصراع الاجتماعي)(13).

التطرف والعنف

والسبب الآخر الذي يدعو نحو العنف هو التطرّف والإيمان المطلق بما يحمله من معتقدات والتعصّب الأعمى لها، فالتطرّف (اتجاه عقلي يجعل الفرد يؤمن بأنّ أفكاره واعتقاداته هي الصحيحة ومن ثم يتشدّد في الحكم على الآخرين إما بإتباعها أو الحكم عليها بالكفر)(14). ومشكلة التطرّف لا تقف إلى هذا الحد بل تتصاعد إلى مستوى استخدام العنف لإجبار الآخرين على الخضوع المطلق لذلك فإن (التطرّف في رأي يلحقه تعصب لهذا الرأي وعندها يتحوّل التطرف والتعصب إلى سلوك غالباً ما يستخدم العنف كوسيلة لتحقيق أهدافه)(15).

وعندما يصبح التطرّف الثقافة الغالبة في المجتمع وتفتقد حالة الوسطية المبنية على التفكير الموضوعي والاعتدال النفسي والعقلاني يصبح المجتمع على حافة السقوط في هاوية العنف والإرهاب، وما أكثر المجتمعات التي انخرطت في أعمال عنف دامية ومدمرة جرّت إلى حروب أهلية وربما عالمية نتيجةً للتطرّف الفكري والحزبي والطائفي والقومي. فالتطرّف يسعى إلى إلغاء الآخرين ومركزية الاتجاه الواحد والحزب الواحد وسيطرته المطلقة، وهذا ما يثير ويجر إلى المواجهة بالمثل حيث أن (الاتجاه نحو المركزية قد يزيد من حدّة الصراعات بين الجماعات المختلفة إذ تصبح السلطة محوراً للصراع)(16).

والتناقض الملموس الذي نشهده في ظاهرة التطرّف هو ذلك التحوّل المضاد الذي يطرأ على الفرد المتطرّف ففي يوم كان ينتمي إلى أقصى اليسار وإذا به يتغيّر بسرعة فجائية نحو أقصى اليمين ونفس هذا التغير المفاجئ هو نوع من التحوّل العنيف الذي يصاحب الشخص المتطرّف كسلوك متماثل يمكن أن يتحقق في مصاديق متنوعة.

انسحاق الهوية والعنف

ومن الناحية الاجتماعية فإن التغييرات الجذرية التي تجتاح المجتمعات بسرعة كبيرة تخلّف وراءها فجوة وتخلّفاً ثقافياً عميقاً تتمثل في عدم استيعاب التغيرات المتلاحقة والتأقلم معها، ولا شكّ فإنّ عدم استطاعة المجتمعات البشرية إدراك التحوّلات والانسحاق تحت وطأة المتجدّدات تدفع نحو العنف كمؤشر على رفض الواقع الجديد.

ومن هنا فإن ظاهرة العنف في المجتمعات الحديثة كما يحلّلها آرنولد توينبي ترجع (إلى انعدام الذاتية وانسحاق الفرد في آلية الحياة الميكانيكية وأن تنظيماً اجتماعياً ذا طبيعة لا شخصية يناقض جوهر الطبيعة الإنسانية)(17). لذلك تكثر الحركات الراديكالية ذات الطابع العنيف في المجتمعات التي لم تستوعب التغييرات الحضارية الكبيرة التي تواجهها.

ويمكن أن نستخلص من مجموعة هذه الدوافع نحو العنف نتيجة أساسية وهي أن العنف حالة استثنائية تنشأ من ظروف غير طبيعية لا يستطيع الفرد والجماعة فيها مواجهة الأمر بالأسلوب الأفضل إما بسبب الانفجار على القمع السلطوي أحياناً أو العجز أو اليأس أو الإحباط أو عدم القدرة على استيعاب التغيرات والتكيف معها في أحايين أخرى.

* مقتطف من دراسة نشرت في مجلــة النبــأ-العــددان (21 ـ 22) السنــة الرابعــة1419

..........................................
(1) الثائرون: رفعت سيد أحمد ص31.
(2) الصياغة الجديدة: الإمام الشيرازي ص595.
(3) المصدر السابق: ص596.
(4) الموسوعة الفلسفية: معهد الإنماء العربي، ص626.
(5) المصدر السابق.
(6) مجلة العلوم الاجتماعية: العدد الرابع/ السنة الرابعة ص106.
(7) الصحة النفسية: الرفاعي ص18.
(8) ظاهرة العنف السياسي: حسني توفيق، ص46.
(9) المصدر السابق، ص166.
(10) الإرهاب السياس: أدونيس العكرة، ص151.
(11) المصدر السابق، ص131.
(12) المصدر السابق، ص135.
(13) ظاهرة العنف السياسي: ص287.
(14) ظاهرة التطرف: محمد بيومي، ص147.
(15) المصدر السابق، ص167.
(16) ظاهرة العنف السياسي: ص225.
(17) مجلة عالم الفكر: المجلد الخامس/ العدد الثالث، ص149.

اضف تعليق