q

فيليب ذر

 

فيينا ــ في حين يعيش أغلب الاتحاد الأوروبي في حالة من الذعر إزاء احتمال فوز زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في مايو/أيار، فإن الاختبار التالي للاتحاد الأوروبي يأتي في وقت أقرب كثيرا. ففي يوم الأحد، يصوت الإيطاليون في استفتاء على إصلاحات دستورية، وتختار النمسا رئيسها التالي. وقد يخلف التصويت في المناسبتين عواقب جسيمة تمتد إلى خارج حدود البلدين.

في إيطاليا، تحول الاستفتاء المقبل إلى تصوت عام على الثقة في رئيس الوزراء ماتيو رينزي، الذي قال إنه سيستقيل إذا رُفِضَت الإصلاحات. ووفقا لأحدث استطلاعات الرأي فإن رينزي ربما يضطر إلى تنفيذ تعهده، وقد يعني هذا نهاية الديمقراطية الاجتماعية الإصلاحية في إيطاليا ــ وخارجها. وفي النمسا سوف يختار الناخبون بين مرشح مؤيد للاتحاد الأوروبي وآخر مناهض له في نفس قالب لوبان القومي، وهو نوربرت هوفر من حزب الحرية النمساوي. وقد يضيف فوز هوفر إلى الرياح التي تدفع شِراع لوبان.

الواقع أن التغييرات الدستورية التي تطالب حملة رينزي الناخبين بالموافقة عليها من شأنها أن تُبطِل بعض التركة التي خلفها رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني ــ الإرث الذي يخدم كمثال شديد الوضوح للضرر الذي قد تُلحِقه الشعبوية اليمينية بالبلاد. فبين أمور أخرى، عمل برلسكوني على تغيير النظام السياسي في إيطاليا على النحو الذي يمنع اليسار من اكتساب السلطة الكاملة مرة أخرى في المستقبل، ويحول دون توجيه أي اتهامات جنائية ضده.

وتهدف الإصلاحات التي يقترحها رينزي، بين أمور أخرى، إلى تحديث النظام السياسي من خلال نزع سلطة مجلس الشيوخ (المجلس الأعلى في البرلمان). والواقع أن هذا التعديل مطلوب بشدة للقضاء على الجمود السياسي، وقد نجح رينزي بالفعل في تمريره خلال مجلسي البرلمان. وكان المفترض أن يعمل الاستفتاء كتأكيد أخير فحسب.

ولكن رينزي فشل في تحسين الأداء الاقتصادي الهزيل في إيطاليا. فبعد مرور ثماني سنوات بعد اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، لا يزال الإنتاج الصناعي منخفضا بنحو 25% عن مستويات ما قبل الأزمة، وتحوم معدلات البطالة بين الشباب حول مستوى يتجاوز 40%. ووفقا لهذه المؤشرات الاقتصادية، فإن الأزمة الحالية لا تقل سوءا عن تلك التي شهدتها بولندا وغيرها من دول أوروبا الشرقية قبل ربع قرن من الزمن، في أعقاب انهيار الشيوعية.

بيد أن هذه البلدان تحملت المشاق في مرحلة ما بعد الشيوعية، لأن قادتها وعددا لا بأس به من أهلها آمنوا بوعد رأسمالية السوق الحرة. وفي المقابل، منذ الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، اهتز هذا اليقين بشدة في إيطاليا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي.

وقد حاول رينزي بتصرفه الصبياني تحسين النظام القائم وسد الثغرات بين الأجيال في إيطاليا، من خلال تنفيذ إصلاحات سوق العمل. ولكن على النقيض من رئيس الوزراء الأسبق توني بلير في تسعينيات القرن العشرين أو المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، يزاول رينزي عمله تحت ظروف اقتصادية عالمية أسوأ كثيرا. ولا تستطيع إيطاليا أن تبني على نموذج النمو المدفوع بالتصدير، وهي تترنح تحت أعباء الديون الضخمة الموروثة من برلسكوني.

يضم معسكر أعداء رينزي الشعبويين من جناح اليسار مثل حركة النجوم الخمسة، والشعبويين من جناح اليمين مثل حزب رابطة الشمال، الذي يهاجمه بضراوة في حين يعتبر الاتحاد الأوروبي مسؤولا عن العديد من مشاكل إيطاليا الاقتصادية والسياسية. وفي الوقت نفسه، ترك الاتحاد الأوروبي إيطاليا تدير بمفردها أمور 160 ألف لاجئ من شمال أفريقيا الذين وصلوا حتى الآن في غضون هذا العام.

أشار زعيم حركة النجوم الخمسة بيبي جريللو إلى أنه يعتزم المطالبة بعقد استفتاء آخر على عضوية إيطاليا في منطقة اليورو إذا فشل استفتاء رينزي، وهو ما قد يحدث بالفعل. وفي حين كانت إيطاليا ذات يوم دولة مؤيدة للاتحاد الأوروبي بشدة، فربما يدعم العديد من الإيطاليين الآن قدرا أقل من التكامل، وخاصة بعد استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة في يونيو/حزيران الماضي.

من ناحية أخرى، قد لا يكون الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي ضروريا. فإذا تنحى رينزي، فقد تصبح إيطاليا غير قابلة للحكم تقريبا، وهو ما من شأنه أن يخيف الأسواق المالية. وهذا بدوره سوف يجعل من الصعب على إيطاليا أن تبقى في منطقة اليورو، نظرا لأسعار الفائدة المرتفعة بالفعل على دينها العام، والذي بلغ 132% من الناتج المحلي الإجمالي.

في الوقت نفسه، تدور الانتخابات الرئاسية المقبلة في النمسا ــ التي يخوضها هوفر ضد المرشح اليساري المستقل ألكسندر فان دير بيلين ــ حول السياسة في البلاد وليس اقتصادها. فعلى مدار السنوات العشر الماضية، حَكَم النمسا ائتلاف من الديمقراطيين الاجتماعيين والمحافظين؛ ولكن برغم هذا، كان كل من هذين التيارين الرئيسيين يعوق الآخر على نحو مستمر، ولا يشتركان إلا في معارضتهما للشعبويين اليمينيين من أمثال هوفر. بيد أن هذا الترتيب المتصلب كان في حد ذاته سببا في تمكين الشعبويين اليمينيين من تقديم أنفسهم باعتبارهم البديل الوحيد للنظام.

النمسا واحدة من أكثر دول الاتحاد الأوروبي ثراء، وكان أداؤها أفضل كثيرا مقارنة بإيطاليا. ولكن المواطنين النمساويين يخشون أن يخسروا ثروتهم الحالية، ولا يزال الساسة قادرين على استغلال بعض شكاواهم الاقتصادية. على سبيل المثال، كانت دخول الطبقتين المنخفضة والمتوسطة الدخل في النمسا في تراجع بطيء طوال عشر سنوات؛ وكان الأداء الاقتصادي الإجمالي أقل من المتوسط في الاتحاد الأوروبي؛ وكانت معدلات البطالة في ارتفاع.

وكما هي الحال في إيطاليا، شَجَب الشعبويون اليمينيون في النمسا الاتحاد الأوروبي وفكروا في إخراج البلاد من منطقة اليورو. ولكن مثل هذا التحرك قد يكون أقرب إلى الانتحار من حالة إيطاليا، والواقع أن حزب الحرية في النمسا خفف بالفعل من موقفه المناوئ لأوروبا منذ التصويت على الخروج البريطاني.

وقد أعلن حزب الحرية في النمسا بدلا من ذلك اعتزامه تحويل النظام السياسي في النمسا إلى ديمقراطية رئاسية أكثر اعتمادا على مبدأ الاقتراع العام. وهذا أيضا من شأنه أن يوجه لأوروبا ضربة قوية، لأنه يعني أن أي تشريع صادر عن الاتحاد الأوروبي ــ مثل سياسات توزيع اللاجئين الموجودين الآن في إيطاليا على دول أعضاء أخرى ــ يمكن حجبه باستفتاء.

عندما سقط سور برلين ــ وسقطت معه اشتراكية الدولة ــ استجابت الدول الأعضاء المؤسِّسة للجماعة الاقتصادية الأوروبية بإنشاء الاتحاد الأوروبي والالتزام بتعميق التكامل الأوروبي. وكان هذا المشروع ناجحا إلى حد كبير قبل اندلاع أزمة 2008، وهو ما يشير إلى أن الاتحاد الأوروبي ربما يكون أكثر تلاؤما مع الأوقات الطيبة وليس الأوقات العصيبة. ومن الواضح أن الاختبار المزدوج للاتحاد الأوروبي في إيطاليا والنمسا في الرابع من ديسمبر/كانون الأول يزودنا بدليل قوي في ترجيح أي من الاتجاهين.

* فيليب ذر، هو أستاذ التاريخ المركزي الأوروبي في جامعة فيينا

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق