q

حين نفحص النظرية الاخلاقية وندرك مفاهيمها الاساسية – معرفة العوامل التي يجب استخدامها في عمل الأحكام الاخلاقية، وما اذا كانت مبادئها تُطبّق مباشرة على القوانين او القواعد، وماهي المفاهيم المقترحة للحياة الجيدة – بالتأكيد سنكون في موقف افضل للحكم على اي من المبادئ المتنافسة هي الأقرب لتهيئة تفسير كامل للظاهرة الاخلاقية.

لسوء الحظ ربما لا يكفي هذا للاختيار من بين تلك المبادئ. معظم المبادئ الكلاسيكية تؤدي مهمة جيدة في إضفاء العقلانية على معظم ان لم يكن جميع أحكامنا الاخلاقية. غير ان المبادئ هي عادة غير منسجمة مع غيرها. فهل يجب ان نقرر من بينها ليس على اساس كفائتها في توضيح وتبرير الأحكام الاخلاقية وانما على اساس الأفضلية، اي، لأننا "نحب" احد المبادئ دون غيره؟ نحن على الأرجح نؤمن بالنظرية الاخلاقية التي تقول ان معظم عقائدنا الاخلاقية صحيحة، ثم بنظرية اخرى تقول ان معظم عقائدنا الاخلاقية هي غير منسجمة. بالطبع لا توجد نظرية فيها تبدو جميع عقائدنا صحيحة.

لابد اذاً التأكد من الخلفية الفلسفية للاعتقاد بان النظرية الاخلاقية هي حقا صائبة –اي النظرية التي تمتثل للحاجة القائمة لنا في الواقع– بدلا من مجرد كونها ترتيب منهجي دقيق لما وقع لنا الايمان به. ان النظرية الاخلاقية "الصحيحة"، التي هي اقرب لإلتقاط الاشياء التي يجب او لا يجب فعلها حقا، هي ربما تبدو اقل انسجاما مع عقائدنا الاخلاقية العادية قياسا بنظرية اخرى.

القضية التي نعالجها هنا هي البرهان او كيفية اثبات عدد من المبادئ الاخلاقية، انه برهان لصلاحية النظرية او وجهة النظر الاخلاقية. مصطلح "برهان" له معاني مختلفة ولكن بشكل عام المقصود به هو عدد من الاقتراحات بدلاً من الانسجام الداخلي وكفاءة النظرية، هذه الاقتراحات بالذات هي مقنعة في اختيار نظرية معينة او مبدأ معين دون آخر.

هناك مختلف انواع البراهين. بعضها يرتكز على التجربة، اخرى تعتمد على مفهوم الاخلاق ذاته، والبعض يرتكز على اعتبارات ميتافيزيقية، بينما نجد براهين اخرى ترتكز على الاحاسيس الفطرية الخاصة او الإلهام. هذه البراهين تُسمى تباعا، التجريبية، المفاهيمية-القبلية، الميتافيزيقية، الدينية.

البرهان التجريبي Empirical proof

طبقا لبنثام Bentham، ان مبدأ السعادة العظمى (سعادة جميع الافراد) لا يخضع لما يسميه هو "البرهان المباشر". مع ذلك، هو يقدّم نوعين من الاقتراحات "غير المباشرة" وهما يراهما يبرران تماما القبول العام بهذا المبدأ.

اولاً، هو يدّعي انه في معظم مناسبات حياتنا نحن بوعي او بدونه نحتكم لهذا المبدأ ونقبل به. بالاضافة الى ملاحظاته العامة حول هذا، السبب الخاص لديه هو ان اي محاولة لانتقاد المبدأ كما يرى، تفترض وجوده سلفا.

ثانيا، يجادل بنثام بان جميع المبادئ الاخرى هي سيئة. اما هي تقود الى علاج "تعسفي" و"معادي" للكائن البشري او انها "فوضوية" بمعنى تقود الى التخلي كليا عن المبادئ والنقاشات الاخلاقية.

كلا الاقتراحين يستلزمان الركون الى التجربة. كوننا باستمرار نستخدم مبدأ المنفعة لا يعني بالضرورة اننا يجب ان نقوم بذلك.

جون ستيوارت مل يعرض برهانا تجريبيا مختلفا نوعا ما:

الدليل الوحيد الذي يمكن اعطاءه بان الشيء منظور هو ان الناس بالفعل يرونه، الدليل الوحيد بان الصوت مسموع هو ان الناس بالفعل يسمعونه. وبالمثل، الدليل الوحيد بإمكانية اثبات الرغبة بالشيء هو ان الناس حقا يرغبون به. طالما كل شخص يرغب تحقيق سعادته الخاصة، فان سعادته هي مرغوبة او جيدة. السعادة العامة ليست الا تراكم سعادات كل الافراد. ولذلك، فان السعادة العامة هي أعظم شيء مرغوب او أعظم خير. اخيراً، كحقيقة سايكولوجية طالما، ان الناس لا يرغبون ابدا اي شيء عدى السعادة بمقدار ما هي وسيلة او جزء من السعادة العامة، يتبع ذلك ان السعادة العامة هي المعيار الوحيد للاخلاق.

الانتقادات المضادة

هناك عدة انتقادات اثيرت ضد مل. قيل ان مل يخلط بين نوعين من المعاني لمصطلح "مرغوب" بمعنى "يمكن ان يكون مرغوبا" مع "ينبغي ان يكون مرغوبا". المعنى الاول هو الذي يشابه استعمال "مرئي" و "مسموع"، بينما صلاحية الجدال تبدو تعتمد على المعنى الآخير "يجب ان يكون مرغوبا". معظم النقاد اعتقدوا ان هذه المغالطة تحطم جدال مل ولكن منذ ايام مل جرى بانتظام تطوير الدفاع عن البرهان واقتراح براهين مشابهة.

نقاد آخرون هاجموا دعوة مل بان الشيء الوحيد الذي نرغبه او الذي يحفزنا بالنهاية هو السعادة (او المتعة). هذه النظرية في التحفيز الانساني تُعرف بالمتعة السايكولوجية. رؤية بنثام بان "الطبيعة وضعت البشرية تحت حكم عملاقين اثنين هما، الألم والمتعة" تعبّر عن نفس الفكرة. هناك مشكلة تؤثر بالذات على النفعيين. كيف يُتوقع مني ان اعزز السعادة العامة اذا كنت متحفزا في المقام الاول لتعزيز فقط سعادتي الخاصة؟

نقد ثالث يتعلق بادّعاء مل بان الخير العام او السعادة العامة ليست الا تراكم للخير الفردي، اي ان الكل هو ليس الاّ مركب او مجموع اجزاءه.

في تضاد مع هذه الرؤية ربما يجادل البعض انه ربما من الخير لي ان لا ادفع اي ضريبة. انا يجب ان انفق النقود بطريقة اكثر متعة. كذلك سيكون من الخير للناس منفردين ان لا يدفعوا الضرائب. وهل سيكون من الخير العام للمجتمع ان نمتنع عن دفع الضريبة؟

البرهان المفاهيمي القبلي Transcendental proof

يعرض عمانوئيل كانط نوعا من البرهان لمبدئه الأخلاقي مختلف كليا ولا يركن الى اي نوع من التجربة. هو يقترح"استدلالا مفاهيميا". في هذا هو لا يعني تجسيدا منطقيا خالصا. هو كما في الفلاسفة الاخلاقيين الآخرين على وعي بانه لا يمكن اثبات المبدأ الاخلاقي بمثل هكذا تجسيد منطقي خالص. "البرهان" بالنسبة لكانط يعني نوعا من "التبرير" للمبدأ الاخلاقي وفق اعتبارات مفاهيمية خالصة، او بكلمة اخرى وفق "ان ما هو عقلاني يعني اخلاقي". برهان كانط يسير كالتالي:

يجب على المرء ان يتصرف على اساس من تلك القواعد التي يرغب بها لتكون ملزمة لكل الناس. لكن مفهوم الاخلاق الذي جاء في هذا المبدأ يفترض مسبقا حرية الاختيار: "يجب" تفترض مسبقا "ما سيكون". اذا كنا مقرَّرين من جانب اشياء اخرى لنقوم بما نفعل سنكون غير احرار والاخلاق ستكون خيالا. ولكن ايضا من السخف ان نفترض ان رغباتنا هي مستقلة كليا في وجودها، اي لم تنشأ بأي سبب آخر. ان السبب او الحافز لرغباتنا بمقدار ما هو حر سيكون هو الوحيد سمة للرغبة (يكون قانون لذاته). الرغبة الحرة اذاً، والرغبة الخاضعة للقوانين الاخلاقية، هما ذات الشيء. اذا كنا احرارا عندئذ نكون ملزمين بقوانين الاخلاق.

معنى الرغبة الحرة

يضع كانط تعريفه للرغبة الحرة على اساس 1- ان كل حدث يجب ان يكون له سبب 2- السببية يجب ان تكون طبقا للقوانين، ومن هذين يستنتج كانط ان الخيارات الحرة يجب ان تخضع للقوانين "والاّ فان الرغبة الحرة ستكون سخافة". ولكن "طالما هي مختلفة عن الخيارات غير الحرة"فان القوانين يجب ان تكون من نوع متفرد peculiar. يرى كانط ان القوانين التي تمتثل لها الرغبة الحرة هي متفردة في كونها تُمنح من جانب الرغبة لذاتها. الاشياء غير الحية والجامدة هي دائما تسير باسباب خارجية، بينما الانسان يعمل احيانا طبقا لأسباب داخلية. هذه القوانين الخاصة التي تطيعها الرغبة هي ذاتها قوانين الاخلاق.

هناك مأزق في جدال كانط كان هو على وعي به وبحاجة للملاحظة، ما يبدو من "حلقة دائرية". فمن جهة، يجادل كانط بانه اذا كانت هناك حرية فهناك اخلاق. ومن جهة اخرى هو يؤسس الحرية على افتراض ان هناك اخلاق (اي اذا كانت هناك اخلاق فهناك حرية). هو يعتقد اننا لا يمكن ان ننكر "الحقيقة الاخلاقية" للحرية، بل يتوجب علينا افتراضها سلفا لكي يكون هناك معنى لكلامنا وافعالنا. نقاد كانط يرون انه من المستحيل تأسيس اي من الاثنين بدون الافتراض المسبق للاخرى، الامر الذي يعني ان تبرير كانط للاخلاق وقع في فخ دائري لا يستطيع الخروج منه.

البرهان الميتافيزيقي Metaphysical proof

كل من هوبز وارسطو يقيمان نظريتهما على تصورات معينة للانسان والعالم. هوبز يعتقد ان الانسان هو اناني بالضرورة وعدواني وغير اجتماعي.

ارسطو يرى ان الانسان بطبيعته هو العكس حيوان اجتماعي ذو ميول قوية للعيش ضمن جماعة منظمة من اناس آخرين وبأهداف مشتركة. عالم هوبز هو عالم مادي فيه يتحرك الانسان باسباب ميكانيكية تكون فيها رغبات الانسان ثانوية وخاضعة. عالم ارسطو هو هادف، يتحرك ليس فقط باسباب سابقة وانما بالغايات النهائية التي تطمح نحوها كل الاشياء بما فيها الانسان.الهدف الاخلاقي لهوبز "البحث عن السلام والسير نحوه"هو ضروري، كما يرى، بفعل الطبيعة الاساسية للانسان والعالم الذي يعيش فيه.

ما لم يوافق الانسان على هذا الهدف، فان ميوله الطبيعية ببساطة سوف تلقي به نحو الدمار.ولذلك هو يجب ان يبحث عن السلام من خلال عقد اجتماعي. المبدأ الاخلاقي لارسطو في ضرورة سعي الناس للادراك الذاتي الرشيد هو ايضا ضرورة فُرضت عليهم بحكم طبيعتهم الرشيدة. الدافع الاساسي لدى كل واحد منا هو ان يكون معقولا وعقلانيا.

هذان النوعان من البراهين الميتافيزيقية يعتمدان على قبول وجهات نظر الانسان والعالم الذي يفترضانه سلفا. لو اكتشف احد ما ولسبب ما ان ميتافيزيقا اي من البرهانين غير مقبولة، فان المبدأ الاخلاقي المشتق منها افتراضا سيصبح في موضع شك ايضا. لو ان احدا لا يرغب في الصراع مع هذه الرؤى الميتافيزيقية فهو ربما لايزال يسأل حول ما اذا كان الارتباط بين الرؤى الميتافيزيقية والاخلاقية هو ضروري كما جرى وصفه. هل يمكن للمرء قبول المبادئ ورفض الميتافيزيقا؟ هل هناك حقا ربط بينهما؟ على سبيل المثال، هل يمكن لشخص ما ان يقبل مبدأ هوبز ولكن بنفس الوقت يرفض ميتافيزيقيته مستبدلا اياها برؤية ارسطو للانسان والعالم؟ لم يثبت ابداً عدم الانسجام بهذا. السؤال الحاسم لهوبز وارسطو هو ليس ما اذا كان المرء يستطيع قبول المبادئ ورفض الميتافيزيقا وانما العكس. السؤال هو حول ما اذا كان قبول رؤية ميتافيزيقية معينة لطبيعة الفرد والمجتمع هو منطقيا ينطوي على مجموعة محددة من المبادئ الاخلاقية ذات الافضلية على مجموعة اخرى.

البرهان الديني Religious proofs

ان مبدأ الفعل الاخلاقي المعبّر عن رغبة الله جرى نقاشه بطرق مختلفة. التبرير الرئيسي لقبول المبدأ هو ببساطة مسألة ايمان ديني يرتكز على شعور خاص او على وحي ديني مقدس وهو الاكثر شيوعا في ادراك رغبة الله. وبصرف النظر عن نوع الانطباع او التجلّي المُعتمد بشأن تبرير هذا المبدأ فهناك عدة مشاكل تبرز في هذا البرهان.

عندما ينكر احد ما وجود الله، عندئذ سوف لن تكون هناك جدوى من تبنّي هذا المبدأ. وحينما يؤمن احد بوجود الله فانه لا يزال يسأل لماذا هو يجب ان يفعل اي شيء ارادهُ الله. الجواب بلا شك سيكون "لأن الله اراد منه ان يعمل هكذا". اذا كان السؤال كيف يمكن للمرء معرفة ان هذا صحيح، فان اللجوء في النهاية سيكون لبعض التجليات. المشكلة اذاً هي مشكلة الواقعية او الموثوقية التي تقوم على تأكيد حقيقة التجلّي. ولكن حتى لو تم القبول بالتجلي، فان هناك مشكلة اخرى اثارها سقراط امام ايوثوفرا والتي سيطرت على هذا المبدأ طوال التاريخ.

هل ان الله يريد منّا اتّباع رغبته فقط لأنه يريدنا هكذا، ام انه يريدنا اتّباع رغبته لأنها هي افضل شيء ممكن القيام به؟ اذا كان الأول، عندئذ سيكون الجواب على السؤال "لماذا يجب ان اطيع رغبة الله؟ "هو ببساطة "لأنه يقول هكذا"، وهنا تصبح الأخلاق هي بالضرورة مسألة عشوائية وغير عقلانية. واذا كان الجواب الأخير اني يجب ان اطيع رغبة الله لأنها احسن شيء يمكن القيام به، عندئذ سيبرز هناك معنى للسؤال مرة اخرى عن المبدأ الذي يستعمله الله ذاته كأساس لعمل أحكامه. في هذه الحالة فان المبدأ الاخلاقي سيكون ليس مجرد ان المرء يجب ان ينفذ رغبة الله، وانما لأنه يجب ان يتصرف طبقا لذلك المبدأ الذي بواسطته تتقرر رغبة الله ايضا.

ربما هناك طرق لتجنب هذه النتائج والحفاظ على مبدأ رغبة الله. قد يجادل احد ان تبنّي الخيار الاول لايجعل الأخلاق اعتباطية لأن ما يُطاع هو رغبة الله وليس رغبة الانسان. طالما لا يمكن ان يكون الله خاطئا او غير عقلانيا، كما في الانسان، فان أعلى العقلانية ستكون في طاعة هذه الاوامر فقط لأنها اوامر الله.

ومن جهة اخرى للرد على ادّعاء ان رغبة الله اذا كانت عقلانية فهي خاضعة لمبدأ اخر أعلى، الرد ربما هو ان لا وجود هناك لمبدأ يتجاوز رغبة الله ماعدى حكم الله وحده في ما هو جيد. في هذه الحالة للقول ان الله يرغب بفعل معين لأنه جيد يعني فقط انه جيد وفقا لحكمه هو وحده، وبما ان ذلك يتم لأسباب لا نستطيع ادراكها فلابد من وجوب القيام بالفعل. غير ان اي من هذه الاجابات لم تضع حدا للجدال بل سيبقى الموضوع مفتوحا للنقاش.

* Proving A moral principle, pathways school of philosophy

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق