q

من المهم أن نعترف بأن العراقيين بذلوا الكثير من الجهود وكافحوا ولا يزالون من أجل الوصول إلى مبادئ تجمعهم وتحل خلافاتهم الكثيرة ذات الجذور العميقة، وكما هو متوقَّع فإن التنوع الثقافي والعرقي والديني في بلد واحد كالعراق، قد يصبح عاملا مساعدا على ازدهاره وتطوره، وقد يكون سببا في ضعفه وتخلفه، وهذا الأمر يرتبط بالنظام السياسي والضوابط الاجتماعية للمجتمع ومدى استقراره وطريقة تداول السلطة فيه، فالتفاهم والتقارب والانسجام بين أقطاب العمل السياسي (الأحزاب والكتل والشخصيات السياسية) سيدعم التنوع ويوظفه لصالح المجتمع، لهذا يُنتظر من النخبة السياسية أن تبادر لمعالجة وتحييد ركائز الاختلاف بين مكونات المجتمع.

ولكن حتى هذه اللحظة من عمر التغيير الجوهري الذي حصل في البنية السياسية في العراق، أي بعد قرابة عقد ونصف مرت على العملية السياسية، لم تظهر البوادر أو الشخصيات السياسية الجامعة للعراقيين، كما هو الحال مع نماذج قيادية عالمية تمكنت من تضميد جروح الأمة وأنستها الخلافات العميقة، من خلال التركيز على المشتركات الجامعة بين أبناء المجتمع الواحد.

وقد عُقدت اتفاقات وتم توقيع وثائق شرف وما شابه بين ساسة وعشائر وأقطاب رئيسة في المجتمع، إلا أن ذلك لم يحدث تغييرا جوهريا على مستوى مضاعفة المشتركات وتقليل المشكلات، ولعل المتابع لاحظ أن السياسيين إلا ما ندر يتحدثون عن التنوع ويقولون إن الفسيفساء العراقي يخدم المجتمع ويزيد من لحمته وانسجامه، وأكثر من يردد هذه الأوصاف، هم السياسيون ثم المثقفون ثم عامة الناس، ولكن إذا كان المثقف والمواطن العادي لا يملكان مشاركة مباشرة في صنع القرار السياسي، فإن الساسة هم المسؤولون أولا عن الانسجام المجتمعي بين مختلف المكونات، ولا تكفي الأقوال في هذا المضمار، لذلك تقع المسؤولية عن الإخفاق او النجاح على عاتق الطبقة السياسية قبل غيرها.

ثمة عناصر وبنود موجودة في الوثيقة الجديدة يمكن أن نقول عنها بأنها جامعة، ولها القدرة على مضاعفة المشتركات وتقليل الخلافات بين مكونات المجتمع العراقي، ولكن بالمقابل هناك بنود قد تعمل بالضد من هذا المبدأ الأساس لإنجاح أية وثيقة أو مبادرة لتحقيق (التسوية التاريخية) بشكل فعلي لا شكلي، لاسيما أننا جربنا سابقا عقد اتفاقات وتوقيع وثائق شرف، فكيف يمكن معالجة هذه المشكلة العميقة التي تتكرر في جميع الوثائق والاتفاقات؟.

خلافات متأصلة بين الكتل

من الواضح أن الخلافات بين الكتل السياسية لا يمكن أن تُغطى بالأقوال أو التمنيات أو التصريحات عبر وسائل الإعلام المختلفة، إذ سرعان ما تكذبها الحقائق على الأرض، فالفجوة بين السياسيين أكبر من أن تغطيها تصريحات لا أساس لها في واقع العمل السياسي، فالمتابع لما يحدث الآن بين الكتل السياسية الكبيرة، لا يحتاج الى ذكاء كبير لكي يعرف أن هناك صراعا سياسيا على السلطة والمناصب، وأن عنصر الثقة المتبادلة بين الكتل السياسية يكاد يذوب في لجة الاختلافات والصراعات التي تتأجج بين حين وآخر، لذلك ينبغي أن تكون هناك معالجة فعلية لنقاط الاختلاف ومواجهتها وجها لوجه حتى لو نكأت تلك الجروح العميقة، فبالنتيجة إذا أردنا تسوية تاريخية فعلينا علينا أن نكون مستعدين فعليا لمثل هذا الاتفاق.

ولكن ما هو السبيل الى ذلك؟، أي كيف يمكن مواجهة الحقائق المرة، وهل هناك من فعلها قبلنا؟، في أفريقيا الجنوبية استطاعت الأغلبية السوداء أن تجد سبيلا للحل مع الأقلية البيضاء من الأثرياء الذين ارتكبوا أبشع السلوكيات مع السود، ولكن هذه الأمة امتلكت قائدا (من السود) كان ذا شخصية مؤثرة قوية حقيقية مخلصة، تمكنت من تضميد الجروح، ونعني بها (نلسن مانديلا)، كذلك كان هنالك استعداد مجتمعي ثقافي للوصول الى تسوية تاريخية.

هل العراقيون قادرون على توفير الظروف التي تقودهم الى مثل هذا الاتفاق التاريخي، لاسيما من محاسن المجتمع العراقي أنه يسجل تفوقا على قادته السياسيين في هذا المجال، بمعنى أن تعدد مكونات وأعراق وثقافات وديانات هذا المجتمع لم تفتّ في عضده ولم تتحول الى عوامل دافعة للصراع أو الاختلاف وما شابه، على الرغم مما يقوم به السياسيون من تصادمات وصراعات على السلطة والمناصب والإدارة المتذبذبة للعملية السياسية بصورة عامة، استنادا الى تأجيج الخلافات العرقية والاثنية والطائفية وما شابه.

مع أن الأدلة والمؤشرات التي أفرزها الواقع تشير الى تقارب بين مكونات المجتمع العراقي أكثر من العاملين في ميدان السياسة، إذ لا يزال العراقيون يحافظون على نسيجهم الاجتماعي من خلال قبولهم بالتعددية والتنوع والتعايش السلمي، ولا زال العراقيون يبادرون بخطوات اجتماعية فعلية أو من خلال الندوات وما شابه، بتقديم النصح للسياسيين بأن يتبنوا سبل الانسجام مع بعضهم، وجعل الثقة بين كل الأطراف رابطا مشتركا لا تراجع عنه، ولكن مع هذه التسهيلات والمشتركات، لا تزال هناك عقبات كبيرة من الصعب عبورها أو القفز عليها، وهي نقاط لا ينبغي لأية وثيقة تسوية أن تتجاوزها كونها تقف حاجزا بالضد من تحقيق النجاح في أي مسعى بهذا الاتجاه.

أين يكمن الحل الناجع؟

هل القادة السياسيون هم من يمتلك مفاتيح إنجاح مبادرات من هذا النوع أم غيرهم؟، هناك من يرى أن الكتل والأحزاب لا يمكن أن تحقق تقدما في مجال (التسوية التاريخية) أو سواها، لسبب يمكن تحديده بوضوح، هو سعيها لحماية مصالحها أولا، لذلك بحسب مراقبين أن العاملين في السياسة هم مصدر تأجيج الخلافات وليس العكس، فكيف يمكنهم عقد تسوية حقيقية بين مكونات المجتمع العراقي؟.

هذا التساؤل يُثار بقوة الآن، بل بعضهم بدأ يشكك في قضية عائدية (وثيقة التسوية وبنودها)، فهناك من صرح في وسائل الإعلام بأن بنود الوثيقة لا تعود لكتلة محددة، بل هي مبادرة لجنة مشتركة من مجلس الوزراء والأمم المتحدة وخبراء عراقيون وغيرهم، ولنا أن نتصور مدى فرص نجاح وثيقة لم تولد بعد، لكنها أصبحت مصدر خلاف في عائديتها!.

لذلك قد تصح ملاحظات وأقوال من يرى كثرة المشكلات بين الكتل العاملة في الميدان السياسي اذا ما قورنت مع مشكلات المكونات المجتمعية، حيث نرى أن الأرضية التي تجمع بين العراقيين تبدو أكثر انسجاما، لدرجة أنها تشكل عاملا مساعدا للسياسيين كي يتقدموا الى أمام ويطوروا تجربة العمل السياسي بالإفادة من هذه الأرضية وانسجامها على الرغم من تنوعها، لذا يبدو أن التنوع المجتمعي بأنواعه قد قلب المعادلة، حتى بات الناس حتى البسطاء منهم يفهمون ويصرحون بأن حقيقة الخلافات سياسية بسبب البحث عن السلطة والمناصب والنفوذ والأموال، وليس همّهم تحقيق مصلحة المجتمع.

وعلى العموم، ثمة نقاط اختلاف واتفاق بين الكتل حيال هذه الوثيقة، ومن الأفضل للجميع أن لا تصبح كسابقاتها من الوثائق والاتفاقات، خاصة أنها تأتي في زمن يتقهقر فيه الإرهاب بفعل الضربات الماحقة والانتصارات الكبيرة التي تحققها قواتنا البطلة في الموصل آخر معقل للدواعش، لذلك من الأفضل أن يتم تطوير ومضاعفة عناصر الاتفاق على بنود (وثيقة التسوية التاريخية)، مقابل إضعاف وتقليل عناصر الاختلاف حولها، فهل تمتلك الجهات السياسية المعنية مثل هذه القدرات الجوهرية لتحقيق ما يصبو له العراقيون؟، الإجابة عن هذا السؤال، سوف يطّلع عليها الجميع، في مرحلة عراق ما بعد داعش التي باتت تلوح في الأفق بوضوح.

اضف تعليق