q

"ثمة أزمة بما أن الميدان السياسي يهدد ما يُكَوِّنُ مُسَوِّغَهُ الوحيد. لقد تغير في هذه الوضعية السؤال عن معنى السياسة. ولم يعد اليوم، بالكاد: ماهو معنى السياسة؟. انه من المناسب... التساؤل ومسائلة الآخرين: هل مازال للسياسة معنى في نهاية المطاف."1

لقد أدى تكرار التعثر في المجال السياسي زمن اللاّيقين واشتداد الاضطراب وفشل الانتقال بعد حدوث ثورات الحراك العربي إلى طرح مسألة التقييم بصورة جدية لأن مستقبل الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد صار مهددا وباتت مسألة صيانة الوجود وحفظ الكيان من الأمور الحيوية والتدبيرات المصيرية.

لقد صارت السياسة عدنا من كثرة الاهتمام بها والاشتغال عليها روتينا ضاغطا وشأنا يوميا وفقدت بريقها وطمست معالمها واستهلكت من شدة تداولها ولكي يتم تحريرها حيثما كانت أسيرة يجدر التساؤل عن السياسي في السياسة من وجهة النظر التي تخص حضارة أقرأ ومن زاوية السوسيولوجيا وفلسفة الحق.

لقد ألقيت كل التهم والتشكيك على كاهل السياسي وتحملت الطبقة السياسية الصاعدة معظم التعزيرات ونعتت بالتقصير وعدم الكفاءة وقلة الخبرة وغياب الأهلية ونقص في الجدارة ووجهت أصابع الاتهام الى رؤساء الأحزاب وزعماء التيارات ورجالات الدولة وتحملت النخب المتعلمة والمثقفة قسطا من الشتائم.

بيد أن هذا التصرف أقرب إلى الانتقاد السجالي والنقاش الشعوبي منه إلى النقد البناء والمعارضة الجدية ولا يغير من الوضع السياسي وإنما يزيد في درجات التشنج والاحتدام ويفوت الفرصة التاريخية للتغيير.

ما يمكن اقتراحه من تفسير للهدر السياسي وحالة الجدب التي أصيبت بها العملية التنموية هو سوء استخدام للوسائط الإعلامية المتعددة وتعثر عملية التواصل والتأثير في الناس وعدم القدرة على تشكيل رأي عام مساند وقوي، ثم المراوحة بين استهداف غايات معينة دون توفير الوسائل الضرورية2 وامتلاك الوسائل والإمكانيات دون وضع خطط وبرامج تشتغل ضمن رؤية مقاصدية تستهدف لغايات مشتركة.

كما تبدو مسؤولية السياسي في زمن الانتقالات الديمقراطية التي تعقب العصيان المدني وترث الثورات الاجتماعية جسيمة وحساسة وذلك لعدم اكتفائه بالتمثيل النيابي للفئات المحتجة والانتقال إلى تحمل عبء الاضطرابات التي تحدث على مسرح التاريخ والتفاني من ناحية السلوك الأخلاقي في خدمة الخير العام.

قد لا يكون كافيا طرح سؤال ما السياسة؟ للرد على هذه التحديات بما أنه سؤال ميتافيزيقي يفتش عن الماهيات ولذلك يبدو من الأجدر طرح سؤال من هو السياسي؟ وهو سؤال نقدي يحوم حول النعت سياسي الذي يملك قوة اللفظ المحايد الذي ترفعه إلى مرتبة الاسم وتجعله يجاور قوة الفاعل السياسي ويمر من السياسة بماهي مؤسسة قانونية تعتمد على العنف إلى السياسي بماهي إجراء إيتيقي يقوم بتمرين عادل.

لهذا يواجه السياسي الكثير من المخاطر والمحن وذلك في علاقة بالحرص على الانتماء الحزبي والولاء للوطن والوفاء للرموز الحضارية واحترام الهوية الثقافية والتضحية في سبيل قيم الإنسانية التقدمية ولكنه يحاول قدر الإمكان تحقيق السلامة الذاتية والنجاح الشخصي والارتقاء الاجتماعي لجماعته السياسية.

فماهي دواعي الانتقال من الحديث عن السياسة (من جهة النظرية) بصفة عامة إلى الاشتغال بصورة مخصوصة على السياسي (من جهة الممارسة)؟ ومن هو السياسي بحق؟ هل هو الراعي أم المشرع؟

هل هو السيد souverain أم الحاكم gouvernant؟ وهل هو الزعيم أم المربي؟ وهل هو الخبير أم الطبيب؟ وهل هو المحبوب أم المهاب؟ وهل هو المخلص أم المنقذ؟ هل هو المؤسس أم المتصرف؟ هل هو القوي أم العادل؟ هل هو التقي أم الذكي؟ هل هو المالك أم المسؤول؟ هل هو لاعب هاوي أم محترف جدي؟ هل هو مناضل من أجل تكريس الحقوق أم ملتزم بتطبيق برنامج ضمن منظومة؟

وما الدور الذي يجب أن يضطلع به في زمن التحولات؟ ألا يجب أن يتسلح بالحذر وحسن التدبير؟ كيف يمتلك الحنكة والكفاءة؟ هل بالمعرفة أم بالتجربة والمراس؟ وما المطلوب من الفكر الفلسفي السياسي اليوم؟ ألا ينبغي أن نستبدل البحث عن النظام السياسي الأفضل (المثال المطلق) بابتكار النظام السياسي الأنجع (المصلحة الكافية)؟ كيف يمكن التخلص من الأحكام السلطانية والمرور إلى السياسة الحيوية؟

ماهو في ميزان الفكر ومدار العمل ليس طلب تغيير طبيعة الحكم بتغيير مهام الحكام فحسب وإنما أيضا الانتباه إلى أهمية تثوير بنية العلاقة الهرمية بين الحكام والمحكومين وتغيير ذهنية السلطة وعقل الدولة من أجل القضاء على الممارسة التسلطية وتفكيك دوائر الفساد وإيجاد نمط مجتمعي خال من الشمولية وربط وظيفة الحكم الصالح باحترام الحرية عند المواطنين والتقيد بالعدالة الاجتماعية والمساواة القانونية.

لقد أصبح العالم الراهن أقل رفاهية بالنسبة للدكتاتوريين وأكثر انفتاحا بالنسبة إلى الأقليات المضطهدة والخصوصيات الثقافية وصارت الأنظمة السياسية في مواجهة شرسة مع الانفعالات والمؤثرات أكثر من الوقائع المادية والحقائق الصورية وأضحى السياسي لا يدري منذ البدء من هو وما يقدر أن يفعله لشعبه وما يكونه والمآل الذي يصير إليه والعاقبة التي تنتظره. إذا صارت السياسة من الأمور الضارة والمفزعة التي تهدد الحياة الإنسانية بسبب ما تحمله من عنف وكذب وشر ومآسي ودمار وتخريب وفوضى فإنه من الأجدى التخلي عنها والتفكير في السياسي من أجل المحافظة على الذات وإنقاذ الحياة من التصحر.

لا يتعلق الأمر بتلميع صورة السياسي المنفرة من حيث التكوين الذي ارتبط بالاستيلاء والهيمنة ومن حيث الدور الذي تعود عليه عند الاحتكار العنف لنفسه وممارسة السلطة من خلال الإجراءات والتدابير الردعية وانما يطلب مساءلة المنزلة الحقيقية التي يحتلها السياسي في وعي المحكومين وضميرهم الجمعي وفي منظومة الحكم غير الهرمية وتحميله المسؤولية التاريخية والأخلاقية التي يضطلع بها حول مصير الدول.

لكن ماهي الصورة التي رسمتها التقاليد عن رجل السياسة؟ وهل يمكن أن نفكر في السياسة دون تبني سياسة معينة في التفكير؟ ومتى يتخلص الفكر الفلسفي العربي من الامية الحارقة: إما الدكتاتور الوطني (المستبد العادل الذي يتصف بالشدة) وإما الديمقراطي التابع (الحاكم الراشد الذي يتصف بالطيبة واللين)؟

* كاتب فلسفي
(جزء من المداخلة التي ألقيت في فضاء رابطة تونس للثقافة والتعدد، بباردو، تونس، الجمعة 11-11-2016)

................................................
المصادر والمراجع:
1.Arendt (Hanna), Qu’est-ce que la politique ?, texte établi par Jerome Kohn, Traduction de l’allemand par Carole Widmaier et Muriel Frantz- Widmaier, et de l’anglais par Sylvie Taussig, avec l’aide de Cécile Nail, éditions du Seuil, novembre, 2014.pp233-234
2.Voir AGAMBEN Giorgio, Moyens sans fins: Notes sur la politique, Publication: Paris: Rivages, 2002.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق