q

قال شادي حامد الباحث بمركز بروكنغز، و رئيس الوحدة البحثية في بروكنغز الدوحة سابقاً، إن وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية أعاد السياسة الأميركية التي قامت على فكرة تعدد الثقافات، واحترام حق كل إنسان في اختياره للحياة التي يريدها.

وقال مؤلف كتاب "إغراء القوة: الإسلاميون والديمقراطية غير الليبرالية في الشرق الأوسط الجديد" في مقال نشرته صحيفة "فورن بوليسي" الأميركية: "أعترف بأنه بعد استقرار فكرة فوز ترامب برأسي، بدأ شعورٌ آخر في الظهور بجانب شعور اليأس الذي كان يسيطر عليّ. فقد بدأت بالشعور بالخوف، الخوف على نفسي وعلى عائلتي".

للمرة الأولى في التاريخ، انتخب الأميركيون رئيساً ديمقراطياً معادياً لليبرالية، هذا لا يعني بالضرورة تحول أميركا إلى دولةٍ ديمقراطيةٍ غير ليبرالية، يقوم قادتها المنتخبون بشكلٍ ديمقراطي بتقييد الحقوق والحريات المتاحة، التي ترتبط في أذهاننا بالفكر الليبرالي الكلاسيكي. ولكنه يعني أننا من الممكن أن نتحول إلى ذلك بالفعل.

كمسلم، وأحد أفراد الأقليات هنا بأميركا، كانت نتيجة الانتخابات مقلقة بالنسبة لي، وربما كانت الحدث الأكثر رعباً منذ أتيت إلى أميركا، ولكن في الوقت نفسه، لا يمكنني سوى الانبهار بفكرة احترام الجميع نتائج الديمقراطية، حتى وإن كانت نتائجها هي وصول أشخاص تكرههم (أو يكرهونك) إلى السلطة؛ إذ قمت من قبل بدراسة الانتخابات في الشرق الأوسط، ورأيت كيف يكون هناك الكثير من الأمور على المحك بالنسبة للخاسرين بالانتخابات، مما يصعب عليهم تقبل حقيقة فوز خصومهم.

كنت قلقاً جداً بخصوص ترشح ترامب، ولكني أدركت في نفس الوقت أنه مرشحٌ مقنعٌ بشكلٍ غير عادي، في عصرٍ لا يظهر فيه شخصٌ مثله سوى نادراً.

أتذكر المرة الأولى التي سمعت ترامب فيها يلقي خطاباً طويلاً بشكلٍ ارتجالي وغير مترابط أمام أحد الحشود الصاخبة. ليس الأمر فقط أنني لم أستطع تحويل نظري عنه، ولكني لم أُرد فعل ذلك. كان ترامب في خطابه مضحكاً، وظهرت شخصيته القوية بسحرها الغامض، ولكن أيضاً ظهر بالمشهد قدرٌ ما من التفاهة التي يمتلكها ورغبته في الانتقام.

كانت حشوده وتجمعاته تشبه إلى حدٍ ما المهرجانات الدينية. ولم تكن السياسة هنا غاية في حد ذاتها، ولكنها كانت وسيلةً لشيءٍ آخر، لا أعرف ما هو بعد، ولكني أعرف أنَّي قد رأيته من قبل.

ليس من العدل مقارنة ترامب بالإسلاميين المُنتَخَبين بشكلٍ ديمقراطي الذين أقوم بدراستهم عادةً، خصوصاً أن ترامب قد أظهر عدم احترامه للمبادئ الليبرالية والديمقراطية بلا أي خجل. ففي تصريحه المُخزِي خلال المناظرة الرئاسية الأولى، رفض ترامب أن يتعهد بقبول نتيجة الانتخابات في حال فوز هيلاري كلينتون. وهو أمرٌ لم تقم به تقريباً أيٌ من الجماعات والتيارات الإسلامية المعروفة التي تشارك في الانتخابات بأي مكان، أياً كانت نواياها الحقيقية.

هناك العديد من الاختلافات بين الأحزاب المبنية على أساسٍ قومي أو عرقي، كالحزب الجمهوري تحت قيادة ترامب، والأحزاب الدينية. وهذا ما يجعل التشابهات الموجودة بينها أكثر بروزاً، كالشعور بالاضطهاد على يد نخبةٍ قويةٍ وراسخة، سواء كان هذا الشعور حقيقياً أو متوهَماً، ويصاحبه أيضاً شعورٌ حاد بالهزيمة والخسارة. وفي الحالتين، يمثل قائد الحركة إرادة المجموعة كلها، ويمثل جميع الأشخاص المؤمنين بفكر الحركة.

هذا التشابه والتداخل بين "الترامبوية" و"الإسلاموية" ليس من قبيل الصدفة. في كتابي "Islamic Exceptionalism"، الذي يناقش الجدال القائم بين الإسلام والليبرالية والديمقراطية الليبرالية، أزعم أن هناك دوراً عاماً يجب أن يلعبه الدين في المجتمعات المحافظة دينياً. فالدين، على عكس القومية العلمانية أو الاشتراكية، يمكن أن يوفر لغةً مشتركة ونوعاً من "العصبية"، وهو مصطلح صاغه المؤرخ ابن خلدون في القرن الرابع عشر، ويعني "الوعي الجمعي"؛ إذ كان يرى ابن خلدون أن "العصبية" كانت ضرورية لربط الدول والمجتمعات بعضها ببعض، وتحقيق التماسك وتوفير الهدف المشترك.

في المجتمعات الأقل تديناً، أو مجتمعات "ما بعد المسيحية"، لم يعد الفكر الغالب في المسيحية قادراً على توفير الهوية الجماعية المطلوبة. ولكن هذا لا يعني أنه لم تقم أفكارٌ أخرى بملء هذا الفراغ.

بعبارةٍ أخرى، احذر مما تتمناه: فأميركا التي لا يلعب فيها الدين دوراً كبيراً ليست بالضرورة مكاناً أفضل، وبالأخص إن حلّت العصبية لأجل مصالح الإنسان الأبيض الأميركي محل الدين.

سواء في حالة العصبية لأجل مصالح السكان البيض في أميركا، أو حالة القومية العرقية في أوروبا، أو حالة الإسلاموية في الشرق الأوسط، فإن الخيط الذي يجمع كل هذه التجارب المختلفة هو خيطٌ واحد: السعي الشرس نحو سياساتٍ لها معنى يتجاوز فكرة المصلحة الفردية وجودة المعيشة.

ربما تبدو هذه الأيديولوجيات فارغة أو غير مترابطة، ولكنها جميعاً تطمح إلى نوعٍ من التماسك الاجتماعي، وترسيخ الحياة العامة من خلال هوياتٍ محددة بدقة. على سبيل المثال، كانت تأمل جماعة الإخوان المسلمين خلال فترة الربيع العربي -على الأقل على المدى الطويل- تحويل مصر إلى ما يشبه الدولة التبشيرية.

جوهر السياسة إذاً في هذه الحالة لم يعُد متعلقاً فقط بتحسين جودة حياة المواطنين، ولكنه يصبح في المقام الأول توجيه طاقات المواطنين لغاياتٍ أخلاقية أو فلسفية أو أيديولوجية.

وعندما تتعهد الدولة في تلك الحالة بالسعي في قضيةٍ ما، سواء كانت قائمةً على هويةٍ دينية أو عرقية، لا يعود المواطنون حينها مجرد أفراد يسعون لتحقيق مفهومهم عن الحياة الكريمة، ولكنهم يصبحون جزءاً من شيءٍ أكبر من ذلك، جزءاً من أخويةٍ أو جماعةٍ تسعى إلى إعادة تشكيل المجتمع. (كيف لمجرد تعديل في سياسات الحد الأقصى للثروة واتفاقيات التجارة أن ينافس ذلك؟).

هذا ليس بالشيء الغريب. فالنخب الغربية تظن في كثيرٍ من الأحيان أن الليبرالية هي الأيديولوجية الافتراضية لأي مجتمع، ولكن بعد قضاء 6 سنوات من المعيشة والدراسة والعمل الميداني في الشرق الأوسط، وبعد معايشتي لاحتضار الربيع العربي، أصبحت نظرتي للطبيعة الإنسانية أكثر قتامة. فعلى ما يبدو، التوجهات المعادية لليبرالية هي الوضع الافتراضي.

وعَدت الإسلاموية بحل الارتباك الروحي المصاحب لمذهب الفردانية والخيارات غير المحدودة. لن أنسى تلك المرة حين كنت جالساً في المقعد الخلفي بإحدى سيارات الأجرة بالقاهرة، وبجانبي شابٌ لا أعرفه يحاول الانتشاء من خلال تناول الحشيش. وبدأ في الحديث معي عن الحاجة إلى فرض الشريعة والقانون الإسلامي. أراد هذا الشاب دولةً إسلامية لتجبره على الإقلاع عن المخدرات؛ لأنه لم يكن يريد الاستمرار في فعل هذه الخطيئة، ولكنه لم يكن يعرف كيف يمكن له أن يتوقف عن ذلك بمفرده.

مع ملاحظتي لانتشار التوجهات المعادية لليبرالية في كل مكانٍ تقريباً، من أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى آسيا، إلا أنني كنت أرفض استنتاجاتي هذه حينما يتعلق الأمر بأميركا، وكنت أقاوم فكرة أن معاداة ترامب لليبرالية تروق للشعب الأميركي. فعلى مستوى الشخصية، شخصية ترامب فريدة وجذابة للغاية بالفعل، ولكن هل يمكنه الفوز بالانتخابات الرئاسية في بلدٍ تمتع فيه الليبرالية الدستورية بكل هذا الرسوخ؟ على مستوى الأفكار، كنت أعلم أننا يجب أن نأخذ تيار ترامب بكل جدية، وكنت أعتقد أنه يملك فرصة جيدة في الفوز بالانتخابات. ولكن كمواطنٍ أميركي يستفيد من المُثُل الديمقراطية في أميركا، لم أستطع تخيل أن يحدث ذلك بالفعل. فكلنا نحتاج إلى التفاؤل بشأن المستقبل، وخاصةً حين يتعلق الأمر بالبلاد التي نعيش فيها ونؤمن بها.

وصف الكاتب ياشا مونك الثامن من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، بالليلة الأسوأ للديمقراطية الليبرالية منذ عام 1942، وهو في الغالب مُحِق في هذا الوصف. ولكن ربما يكون هناك طريقةً أكثر تفاؤلاً للنظر إلى فوز ترامب بالانتخابات: ففوزه من الممكن أن يكون بمثابة التوبيخ الشديد لما أصبحت عليه الديمقراطية الليبرالية، شكلاً من التكنوقراطية الإدارية اليسارية المعتدلة التي تفتقر إلى الإلهام والقوة، على خلاف ما أراد لها مؤسسوها.

هذه الليبرالية التكنوقراطية يمكنها بالتأكيد تحسين معيشة البشر من خلال العمل على تطوير وتحسين الأمور الهامشية بحياتهم. ولكن بخلاف تلك اللحظات الشاعرية المجيدة التي لا تتكرر كثيراً كحملة أوباما الانتخابية الأولى، لم تقدم الليبرالية التكنوقراطية سوى خطابٍ عادي يتعلق بالسياسات التكنوقراطية، وهو خطابٌ من الممكن له أن يصبح ديناً خاصاً بذاته، يوفر اليقين وحتى شيئاً من الهوية، ولكنه مُوَجَّه بشكلٍ أساسي للنخب والخبراء، الذين يعتقدون أن مستقبل السياسة يكمن في الوصول إلى الحقائق الصحيحة، وهذه الحقائق الموضوعية وغير المشكوك فيها يمكنها المساعدة في تسريع العمل على تحسين نظام الرعاية الصحية الشامل المَعِيب، أو إرغام رجال الأعمال بوول ستريت على التصرف بشكلٍ أفضل. ولكن بالنسبة لغيرهم، فشلت هذه الليبرالية التكنوقراطية في تقديم سياساتٍ لها معنى يتجاوز فكرة المصلحة الفردية وجودة المعيشة: فهيلاري كلينتون كانت ذكية ولديها من الخبرة ما يكفي، وهذا كان كافياً بالنسبة إليّ، ولكني كنت أعاني دائماً في أثناء شرح الغاية من سياساتها للمتشككين.

كنت أعاني أثناء ذلك لعدة أسباب؛ فمن ناحية، أنا أفهم الغاية من ذلك بشكلٍ حدسي. بالفعل، أنا لست من النخبة البيضاء ولا أتمتع بامتيازاتها، ولكني أحد أفراد النخبة العالمية، النخبة التي أحبت الصورة التي صورتها لها نفسها عن أميركا: بلدٌ أكثر انفتاحاً، متعدد الثقافات، يحترم حق كل إنسان في اختياره للحياة التي يريدها. وهذا ما عنته لنا أميركا تحت قيادة هيلاري، إذ كانت تمثل لنا حمايةً لتلك المكاسب التقدمية.

ولكن، لماذا ينبغي للآخرين -الذين لا يشبهونني، ولا يشاركونني تجاربي، وليس لهم علاقة بي- ألا يرغبوا في بعض التغيير بالوضع الراهن؟ لماذا عليهم أن يختاروا 4 سنوات أخرى يتم فيها تعميق وحماية تلك المكاسب التي لا تعنيهم إلى حدٍ كبير؟ يحتاج البشر إلى أن يشعروا بالانتماء، ولهذا نشعر بالانجذاب ناحية المجموعات التي تشبهنا في تفكيرنا.

في حالتي، كانت هذه المجموعات أشخاصاً من أديان وأعراق مختلفة، ولكننا كنا نتشارك الثقافة والإحساس ونمط المعيشة. وأثارنا جميعاً هذا المظهر المفرح لتنوع الأعراق والأديان والذي رأيناه في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي. ففي هذا المشهد، رأيت صورة أميركا التي أعرفها، وربما كانت الصورة الوحيدة لأميركا التي تمنيت يوماً أن أعرفها.

ولكن معظم أفراد الطبقة المعروفة باسم "الطبقة العاملة البيضاء" يشعرون بالارتباط ناحية بعضهم البعض أكثر مما سيمكنهم الشعور بذلك ناحيتي يوماً ما. فهم يرونني مختلفاً، وذلك بسبب هويتي. هل هذه عصبية لديهم تجاه الجنس الأبيض ومصالحه؟ ربما. ولكن، في النهاية، فإن خياراتي السياسية كانت تحركها الهوية والثقافة كخياراتهم بالضبط.

ترك تراجع المسيحية في الولايات المتحدة الأميركية فراغاً أيديولوجياً كبيراً. وللعديد من الناس، كانت الليبرالية الحديثة مملةً جداً وغير كافية لملء هذا الفراغ. أو بعبارةٍ أخرى، لم تستطع الليبرالية الحديثة توفير المعنى الوجودي الذي كانوا يبحثون عنه ويسعون إليه.

في كتابه المؤثر "نهاية التاريخ؟"، تعامل الفيلسوف السياسي فرانسيس فوكوياما مع انتصار الديمقراطية الليبرالية، وكتب هذه الكلمات "إنَّ النضال من أجل الحصول على التقدير، والاستعداد لدى الإنسان للمخاطرة بحياته لأجل هدفٍ مجرد وبحت، والصراع الأيديولوجي العالمي الذي يمكنه استحضار الجرأة والشجاعة والتخيل والمثالية، كل هذه الأمور سيتم استبدالها بالحسابات الاقتصادية، والعمل الذي لا ينتهي لحل المشاكل الحياتية، والمخاوف البيئية، ومحاولة إشباع مطالب المستهلك الراقية".

ولكن فوكوياما أيضاً كان لديه رأيٌ آخر حول ذلك في كتابه، واستطاع بصورةٍ غريزية إدراك نقطة الضعف المتأصلة بالديمقراطية الليبرالية قبل الكثيرين؛ إذ أنهى ما كتبه بملحوظةٍ فطنةٍ قد تبدو الآن مرعبةً إلى حدٍ ما: "لعل هذه الاحتمالية المتعلقة بمجيء قرون مملة في نهاية التاريخ ستسهم في إعادة التاريخ إلى حالته التي بدأ بها مرة أخرى".

لقد حُكِمَ علينا بالعيش في أوقاتٍ مثيرة. وعلى ما يبدو، فإنه قد تمت الاستهانة بفكرة ملل الليبرالية الحديثة. في نفس الوقت، يجب أن أعترف بأنه بعد استقرار فكرة فوز ترامب برأسي، بدأ شعورٌ آخر في الظهور بجانب شعور اليأس الذي كان يسيطر علي. فقد بدأت بالشعور بالخوف، الخوف على نفسي وعلى عائلتي، مما أعطاني شعوراً بالغاية.

على الأقل كنت أعرف ما أؤمن به والصورة التي ما زلت أعتقد أنه يمكن لأميركا الوصول إليها. وبطريقةٍ أو بأخرى، حتى وإن كنا لم نُرِد ذلك بشكلٍ واعٍ، إلا أننا جميعاً على ما يبدو نحتاج إلى شيءٍ ما نقاتل من أجله، أياً كان هذا الشيء. والآن سيحظى الأميركيون في كلا طرفي بهذه الفجوة الآخذة في الاتساع بهذا الشيء.

- هذا الموضوع مترجم عن مجلة Foreign Policy الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

اضف تعليق