q

قرار انسحاب بعض الدول الافريقية من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية, والذي اثار ردود افعال مختلفة مايزال محط اهتمام واسع، حيث اكد بعض الخبراء وان هذا القرار يعد صفعة قوية للمحكمة الجنائية الدولية، التي تتهمها بعض الدول بعدم الاستقلالية والتحيز والانتقائية، بخصوص جرائم الحرب والإبادة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان، التي تحدث بشكل يومي في مناطق مختلفة من العالم من قبل دول عظمى وتحت شعارات مختلفة.

الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة المنتهية ولايته بان كي مون وكما نقلت بعض المصادر, سجل انشغاله بمشاعر القلق التي تعترى الدول الافريقية بالنظر إلى الإدانة التي صدرت عن المحكمة الدولية وخصت الأفارقة وحدهم , على الرغم من وجود أدلة على ارتكاب جرائم في مناطق أخرى. وأشار بان كيمون أنه في الأيام الأخيرة أبدت ثلاث دول أفريقية نيتها بالانسحاب من المحكمة. معبرا عن أسفه إزاء هذه الخطوات، التي قد توجه رسالة خاطئة بشأن التزام هذه الدول تجاه العدالة. و أكد كي مون أن معالجة مشاكل سير المحكمة الجنائية الدولية من الداخل، ستكون أنجع من الكف عن دعمها .

وأضاف الأمين العام أن الحيلولة دون وقوع الفظائع مستقبلا، وضمان العدالة للضحايا، وفرض احترام قانون الحرب في أنحاء العالم بأسره هي كلها مهام يتعين عدم المخاطرة بالتراجع عنها في عصر المحاسبة و المسؤولية الذي عمل العالم بجد من أجل بنائه وتقويته. وكان الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة قد دعا في تصريحات سابقة الدول الإفريقية المنسحبة من المحكمة الجنائية الدولية إلى التراجع عن قرارها.

و كان الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة كوفي أنان ,قد وصف الانسحاب من المحكمة الجنائية التي تأسست في عهده , بالعار. ونقلت عنه الصحافة العالمية قوله :" إن بعض القادة (الأفارقة) يقاومون المحكمة الجنائية الدولية ويحاربونها، محذرًا من إمكانية تصويتهم للخروج منها جماعيا, مؤكدا أنه إذا حدث ذلك "فسيكون بمثابة وصمة عار لكل منهم ولكل بلادهم و رد على اتهاماتهم للمحكمة بالانحياز ضدهم بالتركيز على إفريقيا موضحا :" أن ثقافة الإفلات من العقاب والأفراد هم من تحاكمهم المحكمة الجنائية الدولية، ولا تحاكم إفريقيا".

و في الجانب الآخر رحبت عدة دول إفريقية بقرار الانسحاب في مقدمتها السودان و إثيوبيا و كينيا, علما أن 53 دولة من أصل 54 عضو في الاتحاد الإفريقي سبق و أن صادقت على مقترح يقضي بالانسحاب الجماعي من المحكمة الجنائية الدولية . ومن خارج إفريقيا سارعت الصين إلى تأييد الدول المنسحبة، وحثّت الخارجية الصينية في بيان لها الجنائية على احترام سيادة واستقلالية الأفارقة. و تعتبر الصين إحدى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي إلى جانب روسيا والولايات المتحدة الأمريكية, لم توقع على ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية, و مع ذلك يمكنها التأثير على نشاط هذه المحكمة من خلال مجلس الأمن الدولي.

جنوب افريقيا

وفي هذا الشأن نفذت دولة جنوب افريقيا الجمعة تهديدها باعلان انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، وذلك بعد الجدل الذي اثاره رفضها توقيف الرئيس السوداني عمر البشير، ما يشكل صفعة للقضاء الدولي. وصرح وزير العدل الجنوب افريقي مايكل ماسوتا انه بناء على الاجراءات المعمول بها فان بريتوريا "اعلنت خطيا للامين العام للامم المتحدة انسحابها" من المحكمة الجنائية الدولية.

ويدخل القرار حيز التنفيذ بعد مرور عام "من تاريخ استقبال" الرسالة التي وجهتها جنوب افريقيا للامم المتحدة، بحسب ما اوضح الوزير في مؤتمر صحافي. واتهم وزير العدل الجنوب افريقي المحكمة الجنائية الدولية بانها "تفضل بالتاكيد استهداف قادة في افريقيا واستبعاد الباقين الذين عرفوا بارتكاب هذه الفظاعات في اماكن اخرى" خارج افريقيا. وهددت جنوب افريقيا منذ اكثر من عام بانهاء التزامها بمعاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية.

وكانت سلطات بريتوريا وجدت نفسها في 2015، في قلب جدل كبير بمناسبة زيارة الرئيس السوداني لجوهانسبورغ للمشاركة في قمة الاتحاد الافريقي. ورفضت حكومة بريتوريا حينها توقيف الرئيس البشير الملاحق من المحكمة الجنائية بتهم جرائم ابادة وضد الانسانية وحرب في دارفور (غرب السودان) التي تشهد حربا اهلية منذ اكثر من عشر سنوات. وقالت سلطات جنوب افريقيا حينها مبررة قرارها بان الرئيس البشير يتمتع بحكم منصبه بحصانة.

وبررت جنوب افريقيا ايضا انسحابها من المحكمة بهذه القضية. واوضح وزيرها ان المحكمة الجنائية الدولية "تعرقل قدرة جنوب افريقيا على الوفاء بواجباتها في مجال احترام الحصانة الدبلوماسية". واثار اعلان بريتوريا تنديد مدافعين عن حقوق الانسان.

وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش ان هذا القرار "يظهر ازدراء مفاجئا للعدل من جانب دولة كثيرا ما اعتبرت زعيما عالميا في مجال العدل لضحايا الجرائم الاخطر". من جهتها قالت منظمة العفو الدولية ان الانسحاب يشكل "خيانة لالاف الضحايا" ومن شأنه ان "يضرب النظام القضائي الدولي". وحذر انتون دو بليسيس مدير معهد الدراسات الامنية من ان القرار قد يكون له "تاثير الدومينو" ويدفع دول افريقية اخرى الى الخروج من المحكمة الجنائية الدولية.

وتلقت هذه المحكمة ضربتين كبيرتين خلال بضعة ايام. فقد اصدر رئيس بوروندي بيار نكورونزيزا قانونا نص على ان بلاده الغارقة في ازمة سياسية حادة خلفت اكثر من 500 قتيل، ستنسحب من المحكمة. ولا تحتاج بوروندي الا الى ابلاغ الامم المتحدة كتابيا لبدء عملية الانسحاب. وكان رئيس جمعية الدول الاطراف في معاهدة روما (المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية) صديقي كابا حذر في وقت سابق من ان "انسحاب اية دولة عضو سيشكل تراجعا في التصدي للافلات من العقاب". بحسب فرانس برس.

وندد حزب المعارضة الرئيسي في جنوب افريقيا "التحالف الديموقراطي" بقرار الحكومة "اللادستوري واللامنطقي" وقرر اللجوء الى القضاء لالغائه. وكان رفض بريتوريا توقيف الرئيس البشير موضع شكوى امام قضاء جنوب افريقيا. وقررت محكمة الاستئناف العليا في آذار/مارس ان قرار الحكومة "غير قانوني" واتهمت السلطات ب "سلوك مشين". وسيعاد النظر في هذا الحكم بطلب من الادعاء لكن اعلان الانسحاب من شانه ان يوقف هذه الاجراءات. وقال وزير العدل في جنوب افريقيا ان البرلمان سيصوت "قريبا" على قانون يلغي تطبيق معاهدة روما.

عدم الانسحاب

الى جانب ذلك قالت وزيرة خارجية بوتسوانا بيلونومي فينسون مويتوي المرشحة لرئاسة الاتحاد الأفريقي إن الدول الأفريقية المستاءة من المحكمة الجنائية الدولية يجب أن تعمل لإصلاحها من الداخل لا أن تنسحب منها. وعلى الرغم من أن جنوب أفريقيا تجادل بأن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يخالف قوانينها التي تمنح الزعماء حصانة دبلوماسية ترى دول أفريقية أخرى أن المحكمة أداة خالصة لعدالة المستعمر التي تستهدف القارة على نحو ظالم.

وقالت دون الخوض في التفاصيل "لا أرى سببا يدفعنا للانسحاب. الشيء الجيد هو أن عددا قليلا آخر من الأعضاء داخل الاتحاد الأفريقي يتفقون الآن على أن الانسحاب ليس حلا. ينبغي لنا أن نعمل في اتجاه الإصلاح." وبعدما تحدثت الوزيرة قالت جامبيا إنها ستنسحب أيضا من المحكمة الجنائية الدولية واصفة إياها بأنها "محكمة قوقازية دولية لاضطهاد وإذلال الملونين وخاصة الأفارقة."

والمنافس الرئيسي لفينسون مويتوي على رئاسة الاتحاد الأفريقي هي وزيرة الخارجية الكينية أمينة محمد. وتتجه كينيا أيضا نحو الانسحاب من المحكمة منذ توجيه اتهامات للرئيس أهورو كينياتا ونائبه وليام روتو بشأن صلاتهما بإراقة الدماء التي أعقبت الانتخابات في 2008 والتي قتل فيها ما لا يقل عن 1200 شخص. وانهارت الدعاوى المرفوعة ضدهما بسبب نقص الأدلة. بحسب رويترز.

ومن المرجح أن يختار الاتحاد الأفريقي خليفة لرئيسته الحالية الجنوب أفريقية نكوسازانا دلاميني زوما في قمته السنوية في يناير كانون الثاني. وقالت فينسون مويتوي إنه في حال فوزها ستحاول دفع المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب ومقرها تنزانيا إلى "العمل معا" مع محكمة لاهاي التي تختلف عنها في منح الرؤساء الموجودين في السلطة حصانة من الملاحقة القضائية.

افغانستان وليبيا

في السياق ذاته صرحت مدعية المحكمة الجنائية الدولية فاتو بينسودا ان التحقيق في احتمال وقوع جرائم حرب في افغانستان "تقدم بشكل كبير"، معلنة انها ربما تفتح تحقيقا لاول مرة في الفظائع التي يرتكبها جهاديون في ليبيا. وقالت بينسودا امام مجلس الامن الدولي انها ستجعل ليبيا "اولوية" العام المقبل "بسبب حالة العنف وانعدام القانون وغياب المحاسبة من العقاب المنتشرة حاليا".

واضافت ان مكتبها "سيوسع تحقيقاته في 2017" في ليبيا "وسيدرس توجيه تهم .. على نشاطات أجرامية خطيرة" ربما تشمل "جرائم ارتكبها تنظيم داعش". كما صرحت في كلمة امام المجلس انها تعتزم في المستقبل القريب اصدار مذكرات اعتقال جديدة لجرائم بسبب الاضطرابات الليبية. وستكون مثل هذه الخطوات الاولى التي تتخذها المحكمة - التي انشئت في لاهاي في 2002 لمحاكمة مرتكبي اسوا الجرائم في العالم - لاستهداف جهاديي تنظيم الدولة الاسلامية الذي يسيطر على مناطق شاسعة في العراق وسوريا.

وتركزت تحقيقات المحكمة في ليبيا في معظمها على الجرائم التي ارتكبها نظام الزعيم الليبي السابق معمر القذافي الذي اطيح به من السلطة في 2011. وتضغط المحكمة على السلطات الليبية لنقل نجله سيف الاسلام الى لاهاي ليواجه محاكمة عادلة على جرائم ضد الانسانية. وكشفت بينسودا عن انها ستصدر خلال الاسابيع المقبلة تقريرا جديدا حول جميع التحقيقات الاولية التي اجرتها المحكمة. الا انها رفضت التعليق على تقارير بانها تعتزم اطلاق تحقيق شامل في جرائم الحرب في افغانستان يضع الجنود الاميركيين في دائرة الضوء لاول مرة. واضافت "ما استطيع ان اقوله حول الوضع حاليا هو اننا احرزنا تقدما كبيرا في التحقيق الاولي في افغانستان". بحسب فرانس برس.

وخلال تحقيقها الاولي الطويل الذي نشرته في 2007، حققت المحكمة في احتمال وقوع جرائم حرب تعود الى 2003 ارتكبتها حركة طالبان وقوات الحكومة الافغانية والقوات الدولية بما فيها القوات الاميركية. الا انه من غير المرجح ان يواجه اي من الجنود الاميركيين المحاكمة لان واشنطن لم تصادق على ميثاق روما الذي انبثقت عنه المحكمة. وتاتي هذه الانباء عقب اعلان ثلاث دول افريقية انسحابها من المحكمة التي تضم 124 عضوا.

اضف تعليق