q

في إطار الخلية المجتمعية الصغرى ونعني بها (الأسرة)، صعودا الى التجمعات البشرية الأكبر، كالمناطق والأحياء السكنية والمدن ومن ثم المجتمع ككل، هناك مرتكزات للتنافس والتفوق المجتمعي على نحو عام، ولا يمكن تحقيق التطور المطلوب تربويا وعلميا ما لم يتحقق عنصر التنافس، لبناء المرتكزات السليمة للتفوق، ذلك أن جميع المجتمعات التي بلغت مرحلة متقدمة من العلم والتربية والتعامل الانساني الناجح، لم تكن في بداية الأمر متطورة ومتقدمة في هذا المجال، بل بذلت جهودا مضاعفة وطبّقتْ خططا نظرية وعملية كبيرة ومتواصلة، الى أن بلغت مرحلة التطور التي ينعم بها أفرادها الآن.

ومن أهم مرتكزات التفوق التربوي، هو التنافس السليم بين الأفراد والجماعات، وهو التنافس القائم على قواعد ثابتة بعيدة عن الأحقاد والتسقيط والكراهية، لأن الهبوط الى هذه المستويات يجعل من التنافس معرّضا لحالة الصراع، ما يعني التأثير على فرص التقدم التي تتاح للمجتمع بسبب احتمالية تحول التنافس الى صراع، علما أن قانون التقدم لا يقبل الخطأ، حاله حال القوانين العلمية او الإنسانية، ومثلما تحتاج النتائج العملية والفكرية الناجحة الى تخطيط متخصص وتنفيذ دقيق، فإن الامر نفسه ينطبق على البناء المجتمعي، لاسيما في الجانب التربوي القائم على عدة مرتكزات من أهمها التنافس الإيجابي.

ويبقى الهدف هو بناء الشخصية المثالية، والمجتمع المتطور المستقر المبدع، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل المدروس والالتزام بالقواعد والمرتكزات الداعمة للتفوق التربوي بشقيه الفردي والجماعي، علما أن هذا الهدف يتطلب تحركا متواصلا ومبرمجا، لبناء الشخصية السليمة منذ ولادتها، وتخليصها من الانانية والتنافس السلبي عبر الحرص والعمل المنظَّم لزرع قيم التطور في شخصية الانسان منذ بدايات النشأة والنمو لأنها ستنمو وتكبر معه، وتصبح جزءا لا يتجزّأ من تكوينه المادي والفكري، وطالما كانت الأسرة لبنة أولية في بناء المجتمع فينبغي أن تكون حاضنة قادرة على الابداع وصنع أجواء التنافس بين افرادها صعودا الى التجمعات المجتمعية الأكبر والأكثر حضورا وتأثيرا في الآخرين.

الغطرسة وعدم احترام الرأي

إن عنصر التفوق التربوي، يرتكز على الأسرة المثالية، وهذه الحاضنة مسؤولة عن خلق الفرد القادر على الانتاج والابداع في إطار التنافس الخالي من الأنانية والأحقاد، لذلك ينبغي أن تحرص الحاضنة الأسرية على صناعة شخصية عملية مدعومة بتكوين فكري جيد لتسيير أنشطته وفعالياته، ولا ينحصر العمل والانتاج بالجهد الفردي، بل هناك ميزة العمل الجماعي إذ يبدأ الإنسان حياته طفلا، منحازا الى التعاون والعمل المشترك وميّالا نحو التعامل الجماعي بأنواعه كافه فتتبلور فيه شخصية جماعية النزعة تنبذ الأنانية وهذا ينبغي أن يكون أهم مرتكز لتحقيق التفوق التربوي.

وربما يكون عنصر التنافس كمعيار للإنسان الناجح، ويشذب الشخصية من مؤشرات السلوك الرديء، ويبعد الإنسان عن السلبية في الفكر والسلوك وما يتبع ذلك من صفات مؤذية للذات والآخر في وقت واحد مثل الأنانية والانطواء والتضخم الذاتي، وعدم احترام الرأي الآخر والغطرسة أحيانا، وكل هذه الصفات تتدخل على نحو سافر في بناء شخصية مشوهة تدمر الفرد نفسه والمجتمع أيضا، لذلك يرى العلماء المعنيون بعلم النفس والاجتماع أن الأنانية نتاج حتمي لغياب أو ضعف القيم الايجابية ومن أهمها التنافس الخالي من الصراع بأشكاله كافة والمنزّه من الأنانية في الأنشطة البشرية كافة.

ولا شك أن الانشغال بالعوارض التي لا تخدم الجانب التربوي للمجتمع، يعد من صفات المجتمعات المتأخرة، خاصة ما يتعلق بالأنانية التي تعني التخلف بكل ما ينطوي عليه من نتائج مدمرة، فحين يضعف أو يغيب الوعي السليم وتضعف القيم الجيدة في الأنشطة الاجتماعية، ولا يفكر قادة المجتمع بأهمية التفوق التربوي، وعدم الاهتمام بالمرتكزات الأساسية للتطور، تزدهر الغرائز التي تفضل الذات على الآخر وتدفع الى سلب حقوق الآخر ونبذ كل القيم السليمة كالتعاون والتشارك والتسامح والإيثار ونكران الذات وسواها من الخصال التي تشكل إطارا وجوهرا لأفضل الشخصيات العملية الفكرية المنتجة، وغالبا ما يكون التنافس الإيجابي والمرتكزات الداعمة له، هو السبب الرئيس في تحقيق مثل هذه النتائج الباهرة.

من ناحية اخرى يؤدي انعدام العنصر التنافسي في بناء شخصية الانسان، الى ضعف في الرغبة بمشاركة الآخرين، وبالتالي تراجع التفوق التربوي وانعكاسه على تكوين صناعة مجتمعية قاصرة، لذلك فإن الشخصية التي تنشأ في ظل قيم الصراع والتنافس السلبي، والانعزال والابتعاد عن الآخرين فكرا وعملا، تنمو في أجواء رافضة للجماعة وقيمها الاخرى، كالتعاون والتكافل وحب الآخر واحترام خياراته، ومساعدته على انجاز الاعمال او الافكار وسواها مما يدخل ضمن الانشطة البشرية المتنوعة، وبهذا تتشكل مثل هذه الشخصية وفق معايير تنحو الى الفردية والتسلط والتعالي على الآخر، وهي قيم ناتجة عن ضعف في المرتكزات التربوية العاجزة غن تحقيق التفوق المطلوب.

كبح ظاهرة التضخم الذاتي

إن سعي المجتمعات لبث روح التنافس، ساعدها على كبح ظاهرة التضخم الذاتي، والتفرد بالقرار والرؤية وحصر السلطات والصلاحيات، فالمجتمع عندما لا يقوم على التنافس سوف يتعرض للطغيان، وهكذا يصبح المسؤول أيا كان نوع منصبه أو مهامه الوظيفية، دكتاتورا في ادارة أعمال مؤسسته أو دائرته أو مدرسته وسوى ذلك، فيقمع الرأي الآخر وينفرد في اتخاذ قراراته، ولا يسمح للرؤى المناقضة ان تتدخل في عمله ونشاطاته حتى لو كانت ذات صبغة سليمة، والسبب يعود أولا وأخيرا الى محاصرة التنافس، وتأجيج الصراع بين الأفراد والجماعات لصالح الصراع بدلا من التنافس ما يعني تأخر المجتمع وانشغاله بالصغائر.

من هنا حرصت المجتمعات التي انتقلت من خانة التخلف الى التطور، على كبح الأنانية وإطلاق قيمة التنافس، وردع التنمّر الفردي الذي يجعل من الفرد المسؤول يتحول الى دكتاتور صغير أو كبير حسب حجم مسؤولياته، يحدث هذا بغياب أو ضعف عنصر التنافس والمرتكزات التي يقوم عليها، والقيم التربوية الإيجابية وتأثيرها الكبير في بناء شخصية الانسان، ولو أردنا أن نستعين بالتجارب العملية، التي أثبتت قدرة العمل التنافسي على البناء المجتمعي السليم، فإننا لابد أن نستعيد التجارب الناجحة في هذا المجال وهي في حقيقة الأمر كثيرة ومتنوعة ومفيدة في هذا المجال لكل من يرغب الاستفادة منها.

وعلى هذا الأساس لابد أن تسعى النخب والعناصر والجهات المسؤولة للمجتمع، الى نشر قيمة التنافس في جميع مجالات الحياة، لاسيما التربوي منها، كونه يتدخل في مجالات العمل والتفكير كافة، فمن يجد التربية اللازمة السليمة، يمكنه أن يكون عنصرا داعما للتفوق وما عداه لا يمكن أن يساعد على تطوير الفرد والمجتمع، وهو امر تمكنت الشعوب والأمم التي تقود العالم اليوم من فهمه ومعالجته عبر تطوير ودعم قيم التنافس في الأداء الفردي والجماعي على حد سواء.

من هنا ينبغي أن تتنبّه المنظمات الناشطة في مجال التربية وتطوير القيم المجتمعية، الى أهمية درء خطر التفكير والسلوك الأناني بشقيه الفردي والجماعي، ولعل التقدم الذي طرأ على العالم في مجالات الصناعة وسواها وفي مجالات العلوم، ما كان له أن يستمر ويتحقق لو أن النزعة الأنانية هي التي تتحكم في نشاطاته، فمع أحقية التطور والرغبة في النجاح والتفوق والابتكار هناك قواعد ثابتة ومرتكزات داعمة تهدف الى دعم التفوق التربوي من خلال تأصيل قيم التنافس الايجابي وجعلها المحور الأساس لكل تقدم مجتمعي في عموم العالم.

اضف تعليق