q

لوقت طويل كانت معظم الدول الخليجية تعيش حالة من الانتعاش والازدهار الاقتصادي، وبعيدة عن كل مايهز العالم من أزمات اقتصادية، والتي ان حصلت فأن الفوائض المالية لهذه الدول، تجعلها في مأمن من كل شي، اذ ساعد ارتفاع اسعار النفط في فترات سابقة خاصة بعد ماوصل سعر برميل النفط الى 110 دولار للبرميل على نمو هذه الدول وبشكل كان واضح للعيان، حتى امتدت استثماراتها الى خارج حدود بلدانها.

وبعد ان استفاقت الاسوال المالية لدول الخليج من صدمة الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالجميع في العام 2008، وخروجها من عنق الزجاجة، الا انها سرعان ماتعرضت لصدمة أخرى من نوع اخر غير متوقع، وكحال هامان وقارون، فأن السقوط واقع لامحالة، حيث انخفضت اسعار النفط الى مستويات قياسية هي الأوطأ من نوعها على مر تاريخ اسعار النفط.

ومن جملة هذه الدول هي قطر، وعلى الرغم من انها استطاعت بما لديها من احتياطيات هائلة من الغاز وأرصدتها الخارجية بمليارات الدولارات وصغر عدد سكانها أن تتحمل هبوط أسعار النفط منذ منتصف 2014 بشكل أفضل من كثير من جيرانها في الخليج، الا أن تراجع إيرادات الدولة من الطاقة يجيء في وقت تعمل فيه الدوحة على تنفيذ برنامج تبلغ استثماراته 200 مليار دولار لتحديث بنيتها الأساسية استعدادا لنهائيات كأس العالم لكرة القدم 2022 التي تستضيفها وبناء موانئ ومستشفيات وضغط الإنفاق الأمر الذي أدى إلى تخفيضات في الميزانية، وقد تحمل العاملون الأجانب الذين يشكلون الجانب الأكبر من سكان قطر البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة العبء الأكبر لهذه التخفيضات وفقد الآلاف وظائفهم بينما سعت الحكومة لحماية مواطنيها من عواقب التقشف.

وفعلا بدأ المسؤولون يطالبون العاملين بأجهزة الحكومة في قطر بأمور مثل السفر على الدرجة السياحية بدلا من الدرجة الأولى والاشتراك في حجرة مكتب واحدة وإلغاء اشتراكات المطبوعات الدورية إذ فرض انخفاض أسعار النفط التشقف على أعلى مواطني العالم دخلا.

وعلى الرغم من ان قطر تعد أكبر دولة مصدرة للغاز الطبيعي المسال في العالم الا انها تواجه عجزا في الميزانية يبلغ 12.8 مليار دولار هذا العام يمثل أول عجز من نوعه منذ أكثر من عشر سنوات كما أنها خفضت توقعاتها للنمو الاقتصادي إلى النصف.

فمواطني أغنى دولة في العالم من حيث نصيب الفرد من الدخل والبالغ عددهم 300 ألف قطري بدأوا يشعرون بوطأة التغيرات في أجهزة الدولة التي يعمل بها تسعة من كل عشرة قطريين يعملون في وظائف.

وأشار الشيخ تميم أمير البلاد في كلمة في نوفمبر تشرين الثاني الماضي إن مسؤولية القطريين أصبحت أكبر في ضوء انخفاض أسعار النفط وحذر من الهدر والتبذير وقال إنه لم يعد بوسع الدولة أن تقدم كل شيء وهي تعمل على تنويع الموارد الاقتصادية بدلا من الاعتماد على النفط والغاز.

وربما تكون إجراءات التقشف خفيفة مقارنة بما شعر به العمال الوافدون والدول الأفقر المنتجة للطاقة. غير أنها أضنت بعض المواطنين الذين اعتادوا على بحبوحة العيش وعلى النمو الاقتصادي بأرقام فلكية، ولم يؤثر دمج عدد من الوزارات في أوائل العام الجاري على رواتب القطريين وما يحصلون عليه من امتيازات والتي يعتبر المساس بها حتى الآن من المحرمات. غير أنه أدى إلى تخفيضات حادة في الانفاق "التقديري" وفقا لما ذكره ثلاثة مسؤولين بالحكومة.

اذ يؤكد احد المسؤولين في وزارة العمل إن مئات العاملين القطريين بالحكومة أصبحوا منذ دمج الوزارات دون عمل منذ يناير كانون الثاني بينما سعت الحكومة لإيجاد مواقع جديدة لهم واستمرت في صرف مرتباتهم.

وتؤكد السلطات القطرية إن هبوط أسعار النفط يمثل فرصة للحد من تجاوزات الأجهزة الحكومية التي تعاني من أوجه ضعف منذ سنوات، مما دفع الحكومة القطرية الى وضع برنامج لتحسين كفاءة الأداء من اجل الحد من حجم النفقات العامة رغم أن ميزانية عام 2016 شهدت انخفاضا بنسبة 70 بالمئة في الانفاق الرأسمالي الثانوي وهو مجال للإنفاق التقديري يشمل في العادة مشروعات أصغر مثل إعادة تجهيز المباني.

وكان أثر ما أخذته قطر من قبل من خطوات التقشف مثل زيادة فواتير المرافق في أواخر عام 2015 وخفض دعم أسعار الوقود هذا العام أشد وطأة على عمال البناء الأجانب الذين يحصلون على أجور زهيدة. ومن المقرر فرض ضريبة مبيعات بنسبة خمسة في المئة على السلع الاستهلاكية والخدمات عام 2018، ويمثل هذا الاتجاه مجازفة بتقسيم البلاد بين طبقة ثرية من القطريين في القمة والعمال الآسيويين في القاع.

ويرى بشار الاقتصادي السابق بالبنك المركزي القطري إن العاملين القطريين قد يشعرون على نحو متزايد بوطأة التقشف مع استهداف الحكومة لأجهزة الدولة لتقليل العجز، حيث يؤكد ان الحكومة لن تتمكن من توفير الغالبية العظمى من الوظائف للقطريين إلى ما لا نهاية. ولا يمكنها كذلك ضمان استمرار زيادة المرتبات مثلما كان يحدث من قبل. وهذا سيزعج بعض المواطنين. وقد حذرت دراسة حكومية قطرية، من تأخر في إنجاز مشاريع البنى التحتية، أو زيادة في كلفتها المقدرة بزهاء 200 مليار دولار، والتي ينفذ العديد منها ضمن تحضيرات استضافة كأس العالم لكرة القدم 2022، اذ حذر تقرير صادر عن وزارة التخطيط التنموي والإحصاء في دولة قطر من تأخر في إنجاز مشاريع البنى التحتية أو زيادة في كلفتها المقدرة بنحو 200 مليار دولار.

وربط تقرير "الآفاق الاقتصادية لدولة قطر 2016-2018"، بين "تغير" أسعار النفط العالمية، ومشاريع البناء الضخمة التي تقام في البلاد. وفقد برميل النفط أكثر من ستين بالمئة من سعره منذ منتصف العام 2014، إلا أنه عاود في الآونة الأخيرة استعادة بعضا من عافيته في الأسواق العالمية.

وبحسب التقرير، إذا بدأت هذه الأسعار بالارتفاع بشكلٍ أسرع من المتوقع، سيستفيد نمو الدخل الإسمي والميزانين المالي والخارجي، أما في حال بقائها على انخفاض فسيغدو العجز في الحسابين المالي والخارجي أوضح، مما يستدعي بذل جهودٍ للحصول على التمويل.

كما جاء في التقرير أن استمرار تقلب الأسواق المالية العالمية، الذي يؤثر على الاقتصاد المحلي ويقلصُ السيولة، قد يعني بالنسبة للمؤسسات القطرية ارتفاع تكاليف التمويل في الأسواق الدولية"، موضحا أن "من المخاطر المالية الأخرى حدوث تأخيراتٍ أو زيادة في تكاليف تنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبرى وتباطؤ وتيرة الإصلاحات المالية أكثر مما هو متوقع، وأكد التقرير أن قطر ستفرض، وللمرة الأولى، ضريبة القيمة المضافة بدءا من سنة 2018 نسبتها خمسة بالمئة، اتفق عليها خلال اجتماع لوزارة مالية دول مجلس التعاون الخليجي هذا الشهر.

وتستعد الدولة الخليجية لاستضافة كأس العالم لكرة القدم سنة 2022، والتي ستقام للمرة الأولى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشمل تحضريات استضافة هذه البطولة، مشاريع بناء كبرى في البلاد، تشمل ملاعب لكرة القدم، إضافة إلى أعمال تطوير للبنى التحتية، تشمل بناء ميناء جديد وشبكة لمترو الأنفاق وتجديد بعض مناطق الدوحة، ويتوقع أن تبلغ كلفة استضافة كأس العالم نحو 30 مليار دولار، منها عشرة ملايين لبناء ملاعب كرة قدم جديدة، بحسب المنظمين.

وفي انعكاس لأسعار النفط، أشار تقرير وزارة التخطيط إلى أن قطر تتوقع تسجيل عجز مالي نسبته 7,8 بالمئة في موازنة 2016، سيكون الأول منذ 15 عاما. ورجح التقرير ارتفاع العجز إلى 7,9 بالمئة في 2017، وانخفاضه إلى 4,2 في السنة التالية، كما توقع التقرير نمو الاقتصاد القطري وإن بشكل أقل، من 3,9 بالمئة هذه السنة إلى 3,2 بالمئة في 2018.

وقد سعت قطر شأنها شأن دول الخليج الأخرى المعتمدة اعتمادا كبيرا على مبيعات الطاقة إلى حماية وضعها المالي من أثر انخفاض أسعار النفط برفع أسعار خدمات المرافق وخفض الإنفاق، وكان لذلك أثره على كثير من العمال الوافدين الذين يشكلون الجانب الأكبر من سكانها البالغ عددهم 2.5 مليون نسمة، اذ تشعر الشركات التي تعتمد في قطر على التعاقدات الحكومية بوطأة هذا الأمر وبدأت تعمل على تجميد المرتبات وتفسخ عقودا لمهندسين ومحامين ومستشارين وافدين من دول من بينها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والهند، وينذر هذا الاتجاه بأن يؤدي إلى استقطاب متزايد في البلاد بين القطريين الأثرياء والعمال الآسيويين، ومن المحتمل أن يكون الاستمرار في النشاط صعبا للشركات والأعمال التي تعتمد على استقدام عمالة أجنبية ماهرة بمرتبات معفاة من الضرائب ومنها المطاعم مثل والمدارس الخاصة وتوكيلات السيارات والمراكز التجارية، حيث استغنت شركة قطر للبترول التابعة للدولة عام 2015 عن أكثر من 1000 من العاملين الأجانب فيها في إطار إعادة هيكلة.

وليس معروفا على وجه الدقة عدد المغادرين من الوافدين الأجانب في قطر البالغ عددهم 1.6 مليون وافد ومازال عدد سكان البلاد يتزايد بسبب تدفق عمالة آسيوية لبناء طرق سريعة واستادات رياضية لنهائيات كأس العالم لكرة القدم عام 2022.

غير أن مصادر من بينها رؤساء تنفيذيون لثلاث شركات بينوا إن الاستغناءات واسعة الانتشار وإنه تم الاستغناء عن عشرات الآلاف من الموظفين المكتبيين في العامين الأخيرين.

ورغم ثراء قطر الشديد حيث أن نصيب الفرد من الدخل فيها من بين أعلى المعدلات في العالم فهي تواجه عجزا في ميزانية الدولة قدره 12.8 مليار دولار هذا العام وهي أول مرة منذ أكثر من عشر سنوات تواجه فيها البلاد عجزا.

ومن المحتمل أن يكون لهذه الاستغناءات أثرها على الاقتصاد، فالفنادق والمراكز التجارية والمدارس الخاصة وغيرها من المشروعات - التي تأسست عندما كانت أسعار النفط مرتفعة وكان فوز قطر بحق تنظيم نهائيات كأس العالم لكرة القدم لعام 2022 عاملا رئيسيا في مشروعات البنية التحتية والنمو السكاني - أصبحت تتنافس على زبائن طبقة متوسطة من المهنيين تتناقص أعداد أفرادها.

كذلك فإن لدى أصحاب الفنادق أيضا مخاوف من زيادة العرض على الطلب مع تخفيضات الإنفاق الحكومي التي أثرت على سياحة الأعمال وأدت إلى انخفاض بنسبة 19 في المئة في أسعار الغرف الفندقية مقومة بالدولار في العام الحالي وفقا لما ذكرته شركة إرنست آند يونج.

ويستبعد الساسة القطريون فكرة هروب رأس المال ويرون أنها مجرد ترويج للشائعات. ويقول الساسة إن مشروعات جديدة من بينها مطار حمد الدولي في الدوحة والجامعات الأمريكية وأحواض السباحة العالمية والاستادات الرياضية ستظل كلها تعمل على جذب السكان والزائرين للبلاد بغض النظر عن أسعار النفط.

وافاد مسؤول في الحكومة القطرية بأن البناء سيدفع الطلب. حيث يجب التفكير في الأجل الطويل بعد 2022 (نهائيات كأس العالم) والتطلع لمجالات نمو مثل السياحة الإقليمية من الخليج. وبالطبع مازال هناك مجال للمراكز التجارية والفنادق ... فهذه الأمور تشجع الناس على الزيارة والعمل هنا.

ومع ذلك ترى بعض الأنشطة في نزوح العاملين فرصة سانحة، فبعض تجار السيارات المستعملة في الدوحة يديرون نشاطا مربحا إذ يشترون السيارات الرياضية المستعملة من الوافدين المغادرين على عجل ثم يعيدون شحنها وبيعها في أسواق آسيوية.

وحتى على الصعيد الثقافي فأن التقشف طال الانشطة الثقافية في قطر، حيث يرى مسؤولون إن قطر سعت للجمع بين الإنفاق المعتدل والوعي بأذواق مواطنيها مع صعودها كمركز ثقافي في الشرق الأوسط.

وفي منتصف العقد الماضي استثمرت الأسرة الحاكمة في قطر ثروتها النفطية الهائلة في التعليم والفنون وفتح المتاحف والمعارض الفنية والمهرجانات السينمائية وإقامة المعارض الدولية لفنانين كان من بينهم دميان هيرست وريتشارد سيرا في محاولة لتنويع اقتصادها.

وتزامن احتضان الفنون والثقافة مع الحفاظ على التقاليد المجتمعية. فهناك مذيعون عرب يستضيفون محطات إذاعية باللغة الإنجليزية تمولها الحكومة ودور نشر أوروبية تترجم الروايات العربية إلى الإنجليزية وأوركسترا موسيقية أسست عام 2007 تحاول المزج بين إرثها الأوروبي وموسيقى عازف لبناني شهير على العود يقيم في قطر، ففي بلد مازال فيه الفن الحديث والموسيقى الغربية لا يحظيان بتقدير كبير ويتعرض اقتصاده للضغوط يشكو قطريون من زيادة تكلفة مثل هذه المشروعات وعدم ملاءمتها لأذواق القطريين.

ومنذ تراجع أسعار النفط في منتصف عام 2014 جرى تخفيض المشروعات الثقافية في قطر بما في ذلك شراكة مع الناشر البريطاني بلومسبيري الذي أنهي التعاقد معه في ديسمبر كانون الأول علاوة على إغلاق المحطات الإذاعية الممولة من مؤسسة قطر في أكتوبر تشرين الأول. ومؤسسة قطر منظمة تعليمية شبه خاصة أسسها والد أمير قطر لكنها تواجه حاليا استقطاعات في الميزانية، ويؤكد محللون ودبلوماسيون إنه ربما دفعت المشكلات الاقتصادية إلى بعض الترشيد في الإنفاق.

هذا الاستعراض لاقتصاد دولة كان اخر مايمكن أن تفكر فيه هو ان يتعرض اقتصادها للانكماش والتقشف، الا ان واقع الحال يوضح لنا، انه لااحد في مأمن، فمثلما أعظم الدول اقتصادياً (الولايات المتحدة) تعرضت لأزمة مالية، ظن البعض معها، أنها تمثل نهاية المطاف بالنسبة للرأسمالية، فأن دولة مثل قطر لن تكون وان كانت تملك اكبر رصيد من احتياطي الغاز في العالم، فأن ذلك لن يمنع من أن تطالها موجات من التقلبات الاقتصادية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سستجاوز دول الخليج هذا الأزمة ؟؟ وماهي الخسائر والتضحيات التي يمكن ان تقدمها في سبيل الخروج من هذا المنعرج الذي يرى فيه البعض انه سيستمر لفترة طويلة من الزمن . خاصة في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية الحاصلة في العالم.

اضف تعليق