q

تشكل المؤسسات العمود الفقري لأي بنية اجتماعية تحتية وهي بذلك تعطي للمجتمع تنظيمه الطبيعي وانعكاسه الخارجي، لان أي تحقق اجتماعي لا يمكن ان يترجم الى بعد واقعي وخارجي ما دام لم توجد مؤسسات اجتماعية مختلفة، وهذا نجده حتى في اكثر الجماعات بدائية.

وكلما تطورت المؤسسات البشرية ونضجت وتنامت كلما تنامى المجتمع واصبح اكثر تكاملية وحضارة، لذلك تقاس الأمم في مستواها الحضاري المتقدم بقياس مستوى نمو المؤسسات ونضجها وقدرتها الإدارية في تحقيق إثباتها الاجتماعي المتميز. فالمؤسسة هي تعبير سلوكي عن ذلك الاجماع الاخلاقي والمصلحة المشتركة.

وتنبعث هذه الإشكالية المهمة التي نحن في صدد البحث فيها في كون المؤسسات التي تشكل العمود الفقري لمجتمعاتنا لها الدور الاكبر في التخلف الحضاري الذي نعيشه، وذلك لعدة أسباب:

أولاً: أنها لا زالت بدائية في مستواها التنظيمي والاداري بمعنى انها لا زالت تعتمد على الأساليب القديمة في التنظيم والإدارة والتي تستوحيها من الارتجالية الفردية وعدم التخطيط والاندفاع الذاتي.

ثانياً: أنها تشكل جزءاً هامشياً في التأثير على صياغة البنية الاجتماعية، وإذا كان لها تأثير فليس باعتبار المؤسسة كمجهود اجتماعي بل باعتبار المجهود الفردي الذي يؤديه الفرد القائد، ولذلك نرى تغير المؤسسة وانقلابها او انحلالها بتغيير نفسية او فكر الفرد الذي تصاغ المؤسسة على هيئته الذاتية.

ثالثاً: أنها مؤسسات غير مستقرة وسريعة الزوال لذلك لا تستطيع أن تستمر في أداءها. على أن المؤسسة من الناحية النظرية بكونها البنية التحتية للمجتمع تتميز باستمراريتها فلا يرتهن وجودها بحياة فرد أو عدة أفراد بل بالوظيفة التي تؤديها في النظام السياسي الاجتماعي ككل.

رابعاً: انها لا تستطيع استيعاب الطاقات البشرية بل على العكس من ذلك تعيش استنزافاً متدفقاً في الموارد البشرية فضلاً عن ضعف الأداء.

خامساً: أنها واقعة تحت سيطرة التحكم الفردي والإدارة الشخصية المباشرة وبالتالي استخدام الأسلوب الفردي في إدارتها.

سادساً: أنها تعيش ازدواجية إنفصامية بين ممارساتها الفعلية والأفكار والمباديء الحقة التي توصي بالشورى ومراعاة حقوق الآخرين واحترام المؤمنين ومداراة الناس.

دراسة هذه الخطوط العامة للحالة السلبية التي تعيشها مؤسساتنا في الكل او في البعض تعطينا انطباعاً اساسياً مشتركاً وهو أن المنهجية التي تسير عليها هي منهجية تحمل في داخلها الكثير من الإشكالات. فالطابع الرئيسي في انعدامية الحركة الإجتماعية المتطورة لهذه المؤسسات هي كونها مؤسسات تعمل في إطار المنهج الفردي إدارة وممارسة وقراراً، وهي بذلك فوضى وليست منهجاً وان كان تسميتها منهجاً من باب التجوز. ولكون الفردية هي الأرضية الرئيسية التي تتحرك فيها مؤسساتنا فإنها تحمل نقيضها الذي يقودها نتيجة الى ابتلاع ذاتها وموتها، لان طبيعة المؤسسة وحيويتها المستمرة كما قلنا تنبعث من انصهارها الاجتماعي واستيعابها البشري واستحكامها في البناء الاجتماعي.

وإذا كانت المؤسسة بشكلها النوعي تهدف الى ايجاد حركة اجتماعية متميزة من اجل المساهمة الفعالة في بناء المجتمع وتثقيف الناس وقضاء حوائجهم فإن الحركة الفردية التي تقوض بالفعل والقوة محورية المؤسسة الاجتماعية بتقويضها لمنهج الشورى والمشاركة الاجتماعية تصبح مثاراً كبيراً لكثير من الإشكالات القانونية والحقوقية والشرعية. فالقائمون بإدارة المؤسسات بالأسلوب الفردي والقرار الاستبدادي لو تأملوا قليلاً لوجدوا انهم بحاجة الى العديد من المرتكزات القانونية والشرعية فضلاً عن العقلائية لنجاح عملهم ..

فعلى الصعيد الإنساني والحقوقي:

تعتمد المؤسسة على الكادر البشري في تحقيق وجودها الخارجي وعندما تستبد قيادة المؤسسة بقراراتها ولا تعطي اهمية للرأي الإنساني المساهم في تحقيق وجودها ابتداءاً واستمراراً فإنها تنتهك ابسط الحقوق الإنسانية التي وهبها الله لكافة البشر وتحوِّل البشر الى اداة استعباد لتحقيق تسلطها ومصالحها الخاصة.

وعلى الصعيد الاجتماعي:

كما ان المؤسسة الواحدة لا حق لها في حرمان المؤسسات الأخرى من ممارسة نشاطها الاجتماعي باعتبار انه حق طبيعي لها فكذلك نفس المؤسسة لاحق لها في حرمان الافراد الذين يدورون في فلكها من المشاركة في القرار باعتباره حق اجتماعي تعاقدت عليه الجماعة أو المجتمع بصورة مباشرة او غير مباشرة لإيجاد التوازن والاتفاق بين المصالح الاجتماعية المختلفة.

وبعبارة اخرى فإن التفاهم العرفي الذي اتفقت عليه الاجيال الاجتماعية المتوالية بصورة غير مباشرة تعطي الحق للمؤسسات الاخرى والأفراد الآخرين الحق في ممارسة ادوارهم الطبيعية في المجتمع باعتباره كائن لا يتجزأ عن النسيج الاجتماعي، وعلى هذا قامت الفلسفة الجوهرية لتشكيل الكيان الاجتماعي الذي ينظر الى المجتمع باعتباره وحدة اجتماعية متواصلة ومتسلسلة تحقق التكامل الاجتماعي. وبذلك فإن منع الآخرين من ممارسة أدوارهم الطبيعية في المشاركة هو سلب لحقهم الاجتماعي والعرفي وانتهاك للاتفاق العرفي العام.

وعلى الصعيد الإقتصادي:

فإن المؤسسة الاجتماعية أو الدينية المستقلة تستقي مواردها المالية بشكل اساسي من الافراد الذين يهتمون بشأنها ويؤمنون بأهدافها ومنهجها لذلك فإن الاستبداد الفردي او استبداد النخبة يحوطه الاشكال من ناحية التصرف المالي المنفرد الذي قد لا يرضي الآخرين وهذا أمر طبيعي تراه في ابسط المؤسسات التجارية التي لا تعمل إلا حسب إطلاع الشركاء واستشارتهم، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن التزمّت الفردي قد يؤدي الى تحطيم المؤسسة اقتصادياً لإنفضاض المساهمين عنها.

وعلى الصعيد السياسي:

إذا كان للمؤسسة مشاركة سياسية بصورة مباشرة أو غير مباشرة فإنها بالتأكيد تمثل وتعبر عن مجموعة الأفراد والشرائح الاجتماعية التي تشكلها، لذلك فإن القرار الفردي سوف ينعكس عليها سلباً ويشكك في صدق تمثيلها وشرعية ممارساتها.

أما على الصعيد الشرعي والديني:

فإن ممارسة الاستبداد في المؤسسات الاجتماعية والدينية يحمل معها الكثير من الاشكالات والتأملات التي يمكن ان تشكك في شرعية عمل المؤسسة وادارتها. فبالنظر الى الأدلة الشرعية نرى ان الشارع قد ذم الاستبداد في كافة موارده واوجب الشورى باعتبارها الضمانة الاساسية لحفظ المجتمع وخصوصاً أن بعض المؤسسات تحمل في مبادئها أهدافاً تربوية.

فمن ضمن هذه الادلة:

أولاً: القرآن الكريم:

في قوله تعالى: (ولو كُنتَ فظاً غَليظَ القلبِ لانفضُّوا مِنْ حولكِ، فاعفُ عَنهُم واستَغفِر لهُم وشاوِرهم في الأمر)..في هذه الآية نرى مجموعة من الملاحظات:

أ- ان لفظة شاور هي صيغة أمر وصيغة الأمر تدل على الوجوب كما يقول الاصوليون فهنا تدل كلمة شاورهم على وجوب المشاورة وجوباً إلزامياً لا يجوز فعل نقيضه وهو ترك المشاورة وفعل ضده وهو الاستبداد.

ب- المأمور بالمشاورة هو رسول الله (ص) وهذا يعني أن رسول الله (ص) ملزم بأن يشاور المسلمين الذين يشاركونه في مهمة تبليغ الرسالة، ويقوي هذا المعنى ظاهر الخطاب في الآية الشريفة الموجَّه إلى الرسول أولاً حيث قالت الآية: (شاورهم). وإذا لاحظنا سياق الآية القرآنية نجد أنها نزلت في معركة أحد حيث استشار الرسول (ص) أصحابه فكان رأيهم ان يخرجوا الى خارج المدينة بينما كان رأي الرسول التحصن داخل المدينة، ومع ذلك فإن الرسول استجاب لرأي المسلمين من باب التربية على الشورى، وبعد تلك الأخطاء التي رافقت المعركة بعدم تنفيذ اوامر رسول الله(ص) تنزل هذه الآية القرآنية لتأمر رسول الله بمشاورة المسلمين وإن أخطأوا في رأيهم وسلوكهم (فاعفُ عنهُم واستغفِر لهُم وشاوِرهم في الأمر). هذا وقد ذكر المفسرون العديد من الحكم والفوائد التي تستدعي بمقتضى العقل والحكمة مشاورة رسول الله للمسلمين على الرغم من البون الشاسع بين مستوى النبوة ونفوذ بصيرتها وبين عموم الناس.

ج- إذا كان الرسول(ص) على عظمته وقدسيته وعصمته التي لا تحتمل أدنى خطأ بل أن رأيه دائماً واطلاقاً هو رأي الوحي، ومع ذلك يؤمر بالشورى فبشكل اولى يجب على كل من قد تصدى لمهام قيادة المؤسسات ان يعمل بالشورى خاصة وان غير الرسول والائمة ليسوا بمعصومين مما يؤكد الوجوب.

د- أن الآية القرآنية تذكر مجموعة من الصفات الحميدة التي شكلت طريقاً لانتصار الإسلام واجتماع الناس حول الرسول: اللين .. الرحمة .. العفو .. الغفران. والتي تظهر ممارستها عملياً بالشورى لان ممارسة الشورى تظهر قدرات الإنسان الإيجابية في سعة الصدر وتحمل الرأي الآخر واستجابته السلمية للراي المعارض. وعلى النقيض من ذلك فإن هناك صفات ذكرت بعضها الآية القرآنية تؤدي الى ضعف التماسك الاسلامي وانفضاض المسلمين عنه وهي نتيجة حتمية لممارسة الاستبداد وآثاره العملية: العنف .. الفض .. الغلظة .. الخشونة. وهناك آيات قرآنية أخرى تصب في هذا المجال لا يسعنا ان نذكرها هنا.

ثانياً: السنة:

حيث الروايات الكثيرة الواردة عن الرسول والائمة المعصومين تذم الاستبداد في الرأي وتحث على الشورى مثل ما ورد عن رسول الله (ص): ما تشاور قوم الا هدوا لأرشد امرهم. وعنه (ص): لا يفعلن احدكم امراً حتى يستشير. وعن أمير المؤمنين(ع): من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها. وايضاً عنه (ع): جماع الخير في المشاورة والأخذ بقول النصيح.

ثالثاً: العقل:

حيث ان ادارة المؤسسة تصرف في شؤون الاخرين والناس مسلطون على اموالهم وانفسهم ولا يجوز التصرف مالم يحرز رضى وطيب نفس افراد المؤسسة، فلذلك ان الاستبداد تصرف بغير رضى وعن غير طيب نفس، والشورى تصرف مع الرضى.

رابعاً: قاعدة لا ضرر:

الاستبداد بطبيعته السلبية قد يؤدي الى انتفاع الفرد المستبد لوحده او نخبته ولكن نتيجة يلحق الضرر بالآخرين الذين بذلوا جهودهم المادية والنفسية والوقتية من اجل بناء الصالح العام للمؤسسة، وحينئذ فان الاستبداد بإدارة المؤسسة دون استشارة الذي اعطوا من بعض ما عندهم هو اضرار بهم وهو مرفوع ومنهى عنه في الشريعة الاسلامية كما في الحديث المشهور عن رسول الله(ص): (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان الاستبداد الفردي او النخبوي بقرار المؤسسة دون استشارة الآخرين قد يؤدي الى مجموعة احتمالات:

ايجاد الاختلاف العنيف والسلبي الذي يقود بالنتيجة الى عرقلة المؤسسة وايقافه او تراجعه على افضل الحالات. وعلى اسوء الاحتمالات واكثرها وقوعاً نحو ايجاد الانشقاق داخل المؤسسة وبالتالي الى انقسامها او ضعفها.

يؤدي الى استنزاف الكوادر والطاقات المفيدة للمؤسسة بالخصوص وللمجتمع بشكل عام بعد ان لا تجد لآرائها وافكارها مجالاً، مما يقوي فيها الشعور العام بالاستغلال والاضمحلال.

يؤدي استبداد المؤسسة الى خرابها حسب الاستقراء الاجمالي الذي نستفيده من قراءاتنا التاريخية والميدانية، وهذا الخراب ينعكس سلوكاً او سمعة او اداءاً على المؤسسات الاخرى التي تشكل بمجموعها البناء الاجتماعي.

كل هذه النتائج التي تولدها المؤسسة الخاضعة لقرار الفرد تعطي هذا الاستنتاج القوي بمدى الاثار السلبية التي تخلفها الفردية في المؤسسة والمجتمع وبالتالي قيمة الاضرار التي تلحقها وقد تصل في بعض الاحيان الى الضرر البالغ جداً والذي قد يلحق بمجتمع كامل أو حتى أمة باعتبار أن المؤسسة هي جزء لا يتجزأ من ذلك المجتمع أو تلك الامة.

تبقى المؤسسة ذلك الجدول الصغير الذي يتراكم ليشكل النهر ثم البحر ومن ثم المحيط وبتكاثر القرارات الفردية في المؤسسة الصغيرة تتراكم السلبيات حتى تصبح بحراً كبيراً يسيطر عليه فرد مستبد وربما نكون نحن الذين صنعناه بأيدينا عندما علمنا بالفردية في مؤسساتنا المختلفة من اصغرها الى اكبرها ورضينا بذلك، وكما يقول علماء الاجتماع بان رب الاسرة الذي يحكم عائلته بالقوة والاستبداد، يرضى بطبيعته عن الحاكم الاعلى المستبد بالقوة والطغيان، لانه يعبر عن نفس النسيج النفسي والاخلاقي الذي يحمله فيرضى به ولا يرفضه.

* مقال منشور في مجلة النبأ-العدد 29-شـــوال/1419-تحت عنوان: إشكالات في النمط الفردي المستبد لإدارة المؤسسات

اضف تعليق