q

أثبتت التجارب ظهور سلاح التسقيط بعد فشل الاسلحة التقليدية في ميدان المعارك، في محاولة لإخفاء عار الهزيمة أمام الجانب الأقوى معنوياً، وهذا على صعيد الأمم والشعوب، كذلك الحال نراه على صعيد العلاقات الاجتماعية بين الافراد، حيث يحل السب والشتم محل النقاش المنطقي والعلمي عندما تعيي الحيلة فاقد المنطق والدليل العقلي، فيلجأ الى هذا السلاح للهروب من فشله، وربما تكون المسألة، غريزية – نوعاً ما- إذ يشعر الانسان في هذه الحالة بحالة من الضعف ثم خطر القدح في مصداقيته الفكرية وحتى العقائدية، ما من شأنها أن ترسم ملامح الموت المعنوي أمام عينيه.

اذا كان هذا يصدق على زعيم سياسي يقود حرباً ضروس لتأمين مصالحه، او تصدق على من يتزعم ذاته في سجال وجدال عقيم لفرض رأيه واستنتاجاته، فانه لا يصلح في عالم الثقافة والفكر في الساحة الاسلامية والشيعية على وجه التحديد، لان المعني بالخطاب الثقافي ينتظر الافكار البناءة والايجابية المحببة للنفوس والمثيرة لدفائن العقول بما من شأنها صياغة حلول لمشاكله، وما أكثرها وأشدها تعقيداً في الوقت الحاضر، لاسيما في بلد مثل العراق وبلدان أخرى تعيش الازمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يضاف الى إشكاليات ثقافية مركونة جانباً.

وعندما نلاحظ استهداف مراسيم العزاء على مصاب الامام الحسين، عليه السلام، التي يقوم بها الناس في غير بلد بالعالم، فان دعاة الفكر والثقافة يعدون حراكهم في طريق ما يسمونه بـ "تشذيب الشعائر الحسينية"، بما يضفي على هذا الفعل مسحة ثقافية وفكرية، بيد أن الحقيقة التي لم تعد خافية على الجميع، أن المستهدف الحقيقي هو من يقف وراء تكريس هذه الشعائر في ثقافة ووجدان المجتمع، وهو التيار الفكري والثقافي المعروف في الساحة منذ اواسط القرن الماضي، ولذا نلاحظ التربّص عشرة أشهر حتى حلول شهري محرم الحرام وصفر الخير، لشن حملة التسقيط من خلال أجواء الحزن والعزاء العفوية التي يقوم بها الناس، بغض النظر عما يشوب – احياناً- هذه المراسيم ببعض الاشكالات الفنية او حتى المنهجية، بينما نلاحظ كثرة المظاهر السلبية والشاذة في المجتمع والمسكوت عنها طيلة أيام السنة.

بيد أن خيار التسقيط الذي يتبناه البعض في الساحة، لن يأتي بثماره المرجوة لاصحابه، كون ساحة الفكر والثقافة لا تتجسد في الشارع دائماً، إنما في القناعات والمتبنيات لدى افراد المجتمع، فالشعائر الحسينية ومختلف أشكال العزاء والرثاء، لن تكون طيلة أيام السنة، كما هو الحال في شهري محرم وصفر، إنما تبقى المجالس الحسينية في البيوت والحسينيات، بينما نلاحظ ثقافة اللاعنف والسلم الأهلي والتعايش والتعاون وتحمل المسؤولية وغيرها من القيم الانسانية والاخلاقية ما يحتاجه المجتمع، فان مواجهة تيار ثقافي يدعو الى قيم كهذا، فان المسألة تستوقف الانسان السوي عن طبيعة الاهداف التي يتوخاها أصحاب هذا الخيار (التسقيطي).

لذا تبدو الخسارة أكيدة لهذا المنهج رغم وقوف بارزين في الساحة الثقافة والفكرية؛ من اشخاص وتيارات ومؤسسات ثقافية واعلامية، ومع ضخامة الجهد المبذول للتسقيط وتشويه الصورة في الاذهان، تكون الخسارة ضخمة وفادحة، لا تقتصر على الساحة الشيعية، إنما تمتد بافرازاتها الى الساحة الاسلامية ومن ثم العالمية.

ويمكن الاشارة الى نموذجين من الخسارة المحتملة:

الاول: إن الخوض في صراع من هذا النوع، وفي هذا الوقت بالذات، لن يؤدي إلا الى مزيد من ضياع الجهود والامعان في الهزال الفكري والثقافي الذي يوقف الابداع ويقتل الشعور بالمسؤولية إزاء نشر الوعي الاسلامي، وأخطر مآل في هذا الطريق، فقدان المصداقية الثقافية بين افراد المجتمع، إذ ان المفترض وجود بدائل لما وهو مطروح في الساحة، فهل هنالك من طرق أقرب وأفضل لنشر التعايش السلمي وتكريس القيم الاخلاقية والانسانية بين افراد المجتمع؟

ولا أجدني بحاجة الى مثال على التداعي الثقافي والفكري، مما يعيشه المجتمع العراقي في الوقت من وقوفه أمام جدار عدم الثقة بتيارات واشخاص ادّعت العمل الثقافي في سبيل نشر الوعي والارتقاء بالمستوى الثقافي لافراد المجتمع، فكانت المفاجأة من هذا المجتمع، بالارتقاء بالمستوى السياسي عبر المناصب والامتيازات.

الثاني: ان تتبع العثرات والسلبيات هنا وهناك، يؤدي الى فراغ واضح في الساحة الثقافية تملئه مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي، فضلاً عن القنوات الفضائية ومختلف قنوات الضخ الثقافي التي تصنع أنماطاً جديدة للحياة والسلوك العام، وحتى وإن كانت ثمة أحاديث هنا وهناك عن نظريات وافكار، فان لسان حال المخاطب من افراد المجتمع؛ أن الافضل تسوية خلافاتكم وإنهاء تناقضاتكم الفكرية والثقافية قبل التوجه الينا بالتنظير لما يجب فعله.

وما يعزز هذا الصورة الذهنية، السلاسة في وصول الافكار من الخارج وتسللها الى اذهان الصغار والكبار بشكل حزم فكرية واحدة، دون الشعور بأي تناقض وتعارض فيما بينها، علماً ان وراء هذا التوجيه الاعلامي – الثقافي عبر الوسائل المختلفة، جهات مختلفة وربما متصارعة على النفوذ، فنلاحظ مثلاً وجود التوجيه القادم من تركيا، وفي نفس الوقت نلاحظ توجيهاً آخراً يصدر من اوربا، او روسيا، فضلاً عن اميركا، التي بلغت حد الشيخوخة في هذا المجال، وانكشفت كل اوراقها للعالم،ولم تعد ذلك النموذج الناجح للتفوق في كل شيء.

هذا وغيره يشكل ثغرات خطيرة في الجدار الثقافي لبلادنا التي تعاني بالاساس من ثغرات في السياسة والاقتصاد والامن، وعندما يشعر الناس بالتهديد في ثقافتهم، فمعنى هذا أنهم يجدون انفسهم امام موت أمض من الموت المادي الذي يتجرعونه يومياً، إنه الموت المعنوي حيث ضياع الهوية والهزيمة النفسية.

اضف تعليق