q

شهد العراق خلال تأريخه الطويل الكثير من التيارات السياسية والكثير من القوى السياسية التي تُحاول الحصول على السلطة، ثم تأتي قوّة سياسية أخرى تُزيحها، لكنّ القاعدة الشعبية تبقى، وبها يبقى العراق وتبقى سيادته وهيبته ووحدته.

يُعتبر الحشد الشعبي أحد تلك القواعد الشعبية التي قرّرت الدفاع عن الأرض والعرض والمُقدّسات، وذلك بسبب إنتمائها الكبير للوطن، إذ يُمكن وصفهم قوّة جماهيرية تتمثّل فيها الأديان والمذاهب والقوميات المُتنوّعة في البلاد، مُتمحورة في حُب الله تعالى والأرض، مُتوحّدة الأهداف والمصير.

لم يكن الحشد الشعبي تطوّراً مُفاجئاً بعيداً عن الواقع، بقدر ما هو تعبير عن حاجة مُلحّة وضرورة إستراتيجية للأمن الوطني العراقي من جهة، ولحماية منهج الإسلام المُعتدل من جهة ثانية.

ما أشبه الماضي باليوم مع ظهور فرق الحشد الشعبي وتميّزها القتالي وفكرها العقائدي الراسخ، ما هو إلا إستمرار للفكر البطولي لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) في صمودهم ضد القوى السياسية التي ناصبتهم العداء قديماً والى اليوم.

مفهوم المُواطنة والوطن...

تعلّمنا ومُنذ الصغر، ونحن في الدراسة الإبتدائية عندما كنّا ندرس كتاب الوطنية، إنّ "المُواطنة" هي تلك المشاعر النبيلة التي تهز كيان البشر وتُشعره بالإنتماء وبترسيخ هويته وتُقوّي فيه أواصر الإتّصال بأرضه وأهله وشعبه وأمّته، وهي أكبر من الانتماءات المذهبية والعرقية والقومية، وتعلّمنا أيضاً إنّ مفهوم كلمة "وطن" عظيم في الأصل، والوطن الذي ولدنا فيه، وعشنا في كنفه، وكبرنا وترعرعنا على أرضه وتحت سمائه، وأكلنا من خيراته وشربنا من مياهه، وتنفسنا هواءه، وإحتمينا في أحضانه، يجب على جميع أبناءه حمايته، ودفع أي خطر عنه، وهذا مفهوم واضح وجلي لا يختلف عليه عاقل، وهو ما يحصل في بلدان العالم عندما تتعرّض لخطر ما أو غزو أو تهديد خارجي، فيتكاتف أبناءه في الدفاع عنه وحمايته، فتُلغى حينئذٍ هوّية الفرد إتّجاه الوطن.

المُواطنة والوطن لغةً وإصطلاحاً

المُواطنة والمُواطن، مأخوذة في العربية من الوطن، وهو المنزل الذي تُقيم به، وهو (موطن الإنسان ومحلّه)، وطن يطنّ وطناً: أقام به، وطن البلد: إتّخذه وطناً، توطّن البلد: إتّخذه وطناً، وجمع الوطن أوطان: منزل إقامة الإنسان ولد فيه أم لم يولد، وتوطّنت نفسه على الأمر: حملت عليه، والمُواطن جمع موطن: هو الوطن أو المشهد من مشاهد الحرب، قال الله تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ..."، والمُواطن: الذي نشأ في وطن ما أو أقام فيه وأوطن الأرض: وطنها واستوطنها، وإتّطنها أي إتّخذها وطناً، ومُواطنة: مصدر الفعل واطن بمعنى شارك في المكان إقامة ومولداً لأن الفعل على وزن (فاعل).

أمّا في الإصطلاح، فالوطنية (Patriotism) تأتي بمعنى حُب الوطن في إشارة واضحة الى مشاعر الحُب والإرتباط بالوطن وما ينبثق عنها من إستجابات عاطفية، أمّا المُواطنة (Citizenship) فهي صفة المُواطن والتي تُحدّد حقوقه وواجباته الوطنية، ويعرف الفرد حقوقه ويُؤدّي واجباته عن طريق التربية الوطنية، وتتميّز المُواطنة بنوع خاص من ولاء المُواطن لوطنه وخدمته في أوقات السلم والحرب والتعاون مع المواطنين الآخرين عن طريق العمل المؤسّساتي والفردي الرسمي والتطوّعي في تحقيق الأهداف التي يصبو لها الجميع وتُوحّد من أجلها الجهود وتُرسم الخطط وتوضع الموازنات.

الحشد الشعبي والإشكال السياسي

يقول الحقوقي حميد الهلالي "لاشك إنّ تجربة الحشد الشعبي تجربة كبيرة ورائدة في استنهاض همم الشعب والدفاع عن الوطن ومُكتسباته ضد أي إعتداء كان، وقد كانت نتاج ساعة وعي ونُضج عراقي عظيم، وهي فكرة خيّرة وسابقة خلقتها المرجعية الرشيدة لأجل إنقاذ الوطن من الأشرار، رُغم أنّها لم تكن جديدة أو إختراع عراقي بإمتياز، فكثير من الشعوب تلجأ لهذا الإسلوب في تحشيد قُواها الشعبية عندما تتعرّض لأخطار شتّى، البشرية والطبيعية، وحركة نضالات الشعوب تدلّنا على فهرس هذه المُبادرات لكن بالتأكيد ما نلمسه من هذا الفعل التعبوي العراقي أنّها كانت سريعة جداً ومُستوعبة للواقع العراقي وهدفها نبيل ووطني، لا يُمكن الشك فيه لحظة واحدة".

ويُضيف الهلالي إن "تجربة الحشد الشعبي كانت خير مُعين لنا في مُحاربة قوى الشر والرذيلة المُتمثّلة بتنظيمات داعش الإرهابية ومن يدفعها، وأنتجت لنا صوراً زاهيةً من التماسك والتعاون الاجتماعي في تحرير عديد من المناطق التي دنّسها الدواعش الأشرار، وما يهُمّنا هنا أن يُحافظ هذا الحشد على نسقه وعلى مبادئه لأنّه وليد لحظة عصفت بنا وأثمرت تلك الإنعطافة الخلّاقة، وعليه أنا أرى إنّ أي تسييس للحشد الشعبي أو إستثماره سياسياً هو قتل لهذه الفكرة النبيلة والإنقضاض على أهم مُرتكزاتها".

ويُؤكد الهلالي على إنّ "ركوب الموجة من قبل البعض وبإسم الحشد الشعبي سيُساهم بإرتداد الفكرة وتحوّلها الى حزب سياسي أو مُنظّمة محدودة التأثير وغير فاعل وهذه النوايا موجودة للأسف الشديد، فالكثير من أهل الفكر والسياسة يُحاولون أن تتماهى الهوية المذهبية مع الهوية الوطنية وبالتالي مُحاولة رفع سقف الفكرة لتتجاوز سقف الوطن وهذا هو الخطر الأكيد، إذ أنّ كل ما يُعانيه العراقيون الآن من خراب وفساد واضمحلال هو نتيجة تداخل الهويات الفرعية وصراعها مع بعضها على حساب الصوت الوطني الذي يجمعنا، وعليه فمن الضروري أن تُلجم وتُسكت كل الأصوات التي تُنادي بالهويّة المذهبية كمسألة أولى ثم يليها الوطن ثانياً سواء كانت في الكواليس أو في العلن".

الحشد الشعبي من نعم الله علينا

يقول الباحث في الشؤون العراقية الدكتور رائد جبار كاظم "كدت أن أفقد الأمل في سلامة العراق ونجاته من حربه الأخيرة مع الإرهاب، وكدنا أن نفقد العراق ونخسره الى الأبد، لولا أن رأى برهان ربّه في الحشد الشعبي الوطني "مضيفاً "الحشد الشعبي، وما أدراك ما الحشد الشعبي، تلك الجماعة المؤمنة بالله تعالى وبحبّ العراق وأهله ومُقدّساته ونخله ومائه وترابه وهوائه، والتي تتحرّك في عروقها ودمها غيرة الدفاع عن كل ذلك ضد أعداء الدين والوطن والإنسانية من مُجرمي الداخل والخارج، ممّن يتزيّنون بزي الشيطان ويتّخذونه ولياً وإماماً لهم في الدنيا والآخرة".

ويُبيّن الدكتور رائد "أدركت المرجعية الدينية الحكيمة أنّ الظرف واللحظة الزمانية للبلد تُحتّم الوقوف صفاً واحداً للحفاظ عليه من برابرة العصر ومغول اليوم، أصحاب العُنف والقتل والكراهية، الذين كادوا أن يُفتكوا بالبلد ويُحقّقوا مآربهم لولا أن منَّ الله تعالى علينا بنعمة الحشد الوطني والفتوى الوطنية للدفاع عن بلدنا من شر الأعداء والمُبغضين".

فيما يقول الكاتب والإعلامي علي الطالقاني "لقد ظهر الحشد الشعبي وتكوّن في فترة وجيزة نتيجة لفتوى ذهبية من لدن المرجعية، ألهبت الجماهير وصعّدت فيهم الهمّة والغيرة والروح الوطنية للحفاظ على العراق بكافّة طوائفه وقومياته وتشكّلاته الدينية والسياسية والثقافية "مضيفاً "لقد حفظت الفتوى الوطنية للجهاد الكفائي البلد من الإنهيار والسقوط والدمار، وأنقذته والمنطقة من كارثة إنسانية لا مثيل لها، وحقّقت إنجازاً لا يُصدّقه كثيرون، وأدّت من النتائج ما لم تستطع الدولة بهيبتها والحكومة بمؤسّساتها والأحزاب بقياداتها، فقد وقفت بوجه الإرهاب بعد أن شكّلت الحشد الشعبي الوطني، السور الأمين والسد العظيم وصمّام الأمان الذي حفظ البلد والدولة والحكومة والعملية السياسية برمّتها، بعد أن فشلت الأحزاب وقياداتها والحكومة في الدفاع عن البلد، لاسيما حين وصل الأمر الى إشتراك أطراف من العملية السياسية وممّن أتت بهم الديمقراطية الى الحكومة والبرلمان في التآمر على أبناء البلد ومُحاولتهم الإطاحة بالعملية السياسية من أجل تحقيق مآربهم الشخصية والحزبية والطائفية الضيقة، ولكن كُشف أمرهم وبانت نواياهم وأفعالهم الإجرامية القذرة التي كادت أن تُسقط البلد وأهله لولا أن تداركنا الله برحمته".

الهوية الوطنية للحشد الشعبي

يؤكّد القيادي في الحشد الشعبي الشيخ سعد الساعدي "لقد تعرّض بلدنا العزيز لخطر إجرامي فادح، وقد خسرنا الكثير من طاقاتنا وثرواتنا وشيبنا وشبابنا وأبنائنا، وإن عدوّنا فتّاك دموي لا يرحم، وقد أساء لجميع طوائفنا وقومياتنا ومذاهبنا، وعمل جاهداً وبكل ما يملك على تفكيكنا وتقسيمنا وإلغاء هويّتنا وحُبّنا لبلدنا بشتّى وسائله الإجرامية، من تهجير وقتل وعنف وإبادة، إلا إنّ الفرد العراقي بكل فئاته وتوجّهاته أدرك كل المُخطّطات ومن يقف وراءها، وتبيّن له الحق من الباطل، والفعل الأسود من الفعل الأبيض من الأمر، بما فعله أهل الباطل من حقد وكراهية ودموية لإبادة بلدنا وأهله، وبما عمله أهل الحق من صولات كُبرى في الدفاع عن الأرض والعرض والمُقدّسات، وبما قدّموا من غالٍ ونفيس من الأنفس الطاهرة في سبيل حفاظهم على هويّة هذا البلد، ما يُدلّل على عمق وكُبر وحُب وأصالة هويتهم الوطنية".

فيما يرى القيادي في الحشد المُقدّس الدكتور فراس المسلماوي "لقد راهن الكثير من أعداء العراق على أنّ نشوء وتأسيس الحشد الشعبي هو بداية العُنف الطائفي والحرب الأهلية ونهاية العراق وسقوطه، لكنّهم خسروا الرهان حين رأى الناس قيمة وقامة وقمّة هذا التشكّل وهذه الفئة المُؤمنة بحُبّها لبلدها وبُغضها لعدوّها، وخسّة عدوّها وقذارته وحقدها على بلدنا وأهلنا "مضيفاً "لقد كانت فتوى المرجعية في الدفاع عن العراق وأهله القول الفصل في بيان الهويّة الوطنية من الهوية الطائفية، وصحيح أنّ الفتوى صدرت من زعيم طائفة بعينها، لكنّها لم تكن فتوى طائفية، لأنّها حفظت البلد وأهله بكافّة هويّاتهم الفرعية والثانوية، وسعت لأن تكون الهوية الوطنية هي القيمة الكُبرى للحفاظ على وجودنا المُهدّد والخطر الكبير المُحدق بنا، فبورك بالفتوى الوطنية وبقادتها، وبارك الله بالحشد الشعبي الوطني، وحفظ الله بلدنا من كل سوء ومكروه، وزاد في حُبّنا للوطن وإعلاء هويتنا الوطنية".

الحشد الشعبي: الموصل وجهتنا الأخيرة

قال الناطق الرسمي بإسم هيئة الحشد الشعبي، النائب أحمد الأسدي، إن "الهوية الوطنية للحشد الشعبي إتّضحت معالمها للرأي العام من خلال المعارك التي خاضها في تحرير المُدن العراقية من سيطرة داعش الإرهابي "مُشدّداً على إن "الحشد تشكيل مُكوّن من كل فئات الشعب العراقي ولم يقتصر على طائفة أو قومية دون أخرى "مُستذكراً "البطولات والتضحيات التي قدّمها أبناء الحشد الشعبي وفي مُختلف المعارك التي خاضها، وذلك بفعل عُمق العقيدة التي يحملها أبناءه الغيارى".

من جانبه يُؤكّد عميد كلية العلوم السياسية بجامعة النهرين، الدكتور عامر حسن، إن "أهمية وضرورة وجود قوّات الحشد الشعبي للمُشاركة في تحرير محافظة نينوى لما يملكه من خبرة وتجربة ولما يحمله من عقيدة في الحفاظ على الحُرمات والمُقدّسات "مُشيراً الى "لا ننسى الدور الكبير الذي قامت به قيادات الحشد الشعبي والمُساهمة في رفد معارك التحرير بالعدّة والعدد من المقاتلين والدفع المعنوي من خلال مُشاركة قادته في الكثير من المعارك وتقدّمهم صفوف المقاتلين "مضيفاً "إن للحشد الشعبي الدور الكبير والمُساندة الفعّالة لأبناء القوّات الأمنية من الجيش والشرطة للقضاء على العصابات الإرهابية وتحرير المُدن "مُبيّناً إن "كُل ذلك عكس الصورة الحقيقية للهوية الوطنية لأبناء الحشد وإنّهم جزء لا يتجزّأ من المنظومة الأمنية المُنضوية تحت لواء الحكومة العراقية".

من هُنا نرى إنّ الحشد الشعبي جاء كردّ فعل على قوى ظلامية إندفعت مُستخدمة العنف وسفك الدماء البشرية، لاسيما إنّها لا تُؤمن إلا بنفسها، ومن خالفها فمصيره الموت والفناء من الوجود، لذا فالحشد الشعبي جاء كمُعدّل عقائدي إنساني مُهمّته حفظ النوع والحفاظ على التنوّع، لأنّه جاء ليكون جزءً من حل على المستوى الأمني وليس جزءً من مُشكلة.

اضف تعليق