q

من المتعارف عليه أن كل شخص ينوي القيام بمشروع ما، أو حركة معينة، لابد له أن يضع في حسبانه الظروف المحيطة به على الصعيد الزمكاني (زمان/مكان) الذي سيرتبط به الحدث، وما سيترتب عليه وما سينتجه من آثار مستقبلية.

وأكدت دراسات فكرية وأبحاث علمية متخصصة في مجال علم المستقبل على أهمية الوعي بالراهن، بحيث لا تنفصل أية حركة عن حاضرها وظروفه ؛ حتى تكون بعيدة عن النتائج التي قد تأتي بعكس ما تشتهي سفنها.

إنَّ النظرة المستقبلية الثاقبة والبعيدة المدى تمثل الومض الأول الذي يضيء حقيقة التجربة، وهي تتلمس من خلاله طريقها.

ورغم أن دراسات تبدو معاصرة، إلا اننا يمكن أن نستدل على ضروريات الوعي بالمرحلة الآنية والنتائج المستقبلية لبعض المواقف بحسب المفهوم الذي تحدثنا عنه، من خلال سلوك الأئمة المعصومين من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، فهم بالرغم من عصمتهم وولايتهم التكوينية تعاملوا مع ظروفهم وما يحيط بهم بواقعية وحسب السياق البشري الطبيعي، آخذين بنظر الإعتبار المرحلة ومتطلباتها مع انهم امتداد لسراج واحد وقضية مقدسة واحدة.

سلوك المعصومين عليهم السلام هذا مثّل تحفيزاً ذهنياً للأمة وللأجيال التي تريد انتهاج مشاريع مستقبلية.. بهدف تشجيعهم على الزرع في أرضية صالحة ومناسبة ؛ لتأتي ثمار المستقبل منسجمة مع الهدف الحقيقي لبذار المشروع. وشكلت نهضة الإمام الحسين عليه السلام ملمحاً مستقبلياً وشاهداً حقيقياً من شواهد الإهتمام بمتطلبات الظرف المرحلي والنتائج التي ترتبت بعد ذلك على صعيد المستقبل.

الإمام الحسن المجتبى مفتاح الطف الأول

وعندما نستشهد بالثورة الحسينية العظيمة في كربلاء، ونجعلها انموذجاً لدور الإمام المعصوم، وكيفية التحرك وفق معطيات المرحلة ومتطلباتها، لابد من الإشارة إلى ممهدات هذه النهضة الخالدة، وكيف أنها - الممهدات - جاءت منسجمة مع الراهن وسخونة أحداثه التي عاشها تفصيلياً الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، في أوج صراعه مع الباطل ممثلاً بمعاوية والمتخندقين معه، وهو الأمر الذي لم يأخذ استحقاقه المهم من كتابات المؤرخين والمحللين، والذي يوازي بأهميته أهمية الكتابة في نهضة أخيه أبي عبد الله الحسين عليه السلام، بل أن بعض المحللين اخذوا يتفلسفون بلا منطق حول دور الإمام الحسن في تلك الفترة الملتهبة، خصوصاً في حادثة المعاهدة مع معاوية التي لم تُقرأ بشكل صحيح ومتجرد من أمزجة تنتج مواقف متسارعة غير واعية.

هذه المعاهدة التي يصطلح عليها في المدونات التأريخية بـ (الصلح)، تعتبر من أهم المفاصل الزمنية الحرجة التي فرضت نفسها بقوة على الأحداث، وذلك بعد أن استنفد الإمام الحسن عليه السلام كل الخيارات مع أصحابه والمقربين منه، وكان حذرهم مراراً وتكراراً من زيف الأمويين ومخططاتهم، فكان لابد من تعامل واقعي يمهد في ذات الوقت للفتح المستقبلي.

أولى هذه الممهدات كانت عدم الإعتراف الصريح والمباشر بخلافة معاوية، إذ خطب الإمام الحسن عليه السلام أمام جمهرة من الناس ومعاوية بينهم إذ قال : " أيها الناس، إنَّ معاوية زعم أنّي رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا اولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبي الله، فأقسم بالله، لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماءُ قطرها والأرض بركتها، ولما طمعت فيها يامعاوية ".

هذه الصراحة والوضوح في كلام الإمام الحسن عليه السلام يبين مدى واقعيته في التعامل مع الظرف الراهن الذي حتم عليه حقن الدماء، فضلاً عن بنود المعاهدة التي لم يحتملها الطرف الآخر، حيث كشف معاوية عن وجهه الحقيقي المختفي خلف قناع غش به العامة لسنين طويلة، وذلك بعد أن مزق المعاهدة قائلاً : " أضعها تحت قدمي " وطلب أخذ البيعة لولده يزيد الفاجر. من هنا تتضح لنا الرؤية الثاقبة والنظرة المستقبلية للإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه، وكيف مهد لمرحلة جديدة سينجزها أخوه الحسين عليه السلام.

كربلاء.. مرحلة إدراك الفتح

ومع تسلط يزيد على الأمة، وبكل ماعرف عنه - بالإجماع - من انحراف وفجور، بدأت مرحلة جديدة لم تكن لتغيب عن ذهن وفكر إمام الزمان السبط الشهيد عليه السلام، بعد أن تكشفت أكاذيب الأمويين، ودورهم في تخريب مضامين الرسالة التي نهض بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أن المخطط الرئيس هو القضاء على التوحيد والنبوة والإمامة، والقضاء على كل من يتحمل مسؤولية النهوض بهذه المضامين من أهل بيت النبي صلوات الله عليهم أجمعين، وهو ماكان يدركه قطعاً سيد الشهداء العظيم، لذا كان لابد من جرس إنذار قوي يجعل الأمة تفيق من سباتها ومن خدرها الديني والفكري الذي كان ليستفحل ويصل لمديات رهيبة لو تم السكوت على يزيد وممارساته وطغيانه، وبدأت أولى الأدوار برفض البيعة في منزل والي المدينة حيث أعلن الإمام صراحة : " مثلي لايبايع مثله "، من هنا بدأت مرحلة الصعقة الفكرية التي تعيد العقل للأمة، وبالتأكيد أنّ لهذه الصعقة ضريبة ستدفع، فكان قرار مغادرة المدينة والتوجه صوب مكة واستقبال المكاتبات المطالبة بإرجاع الحق لأهله والنظر فيها.

وبعد الذي جرى لمسلم بن عقيل في الكوفة، اتخذ الإمام قراره بأن يكون الفتح مضمخاً بدمائه الزكية ودماء أهل بيته وأصحابه في أعظم الملاحم الإنسانية وأعلى مراتب الوعي الذي أحدثته كربلاء.

الشعائر والمرحلة المستقبلية

اليوم، وبعد مرور أكثر من ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين عاماً على هذه الحادثة التي تزداد ألقاً وجمالاً ، وبعد أن أصبحت كربلاء قبلة الأحرار، وكعبة لكل من ينشد الإنسان كقيمة عليا، ومثلما يعبر عن العالم في زمن العولمة وازدهار التكنلوجيا ووسائل الإتصال بأنه قرية كونية صغيرة ؛ صارت كربلاء قرية إنسانية أنتج الحسين عولمتها بأبهى التضحيات وأشرف المواقف، وليس جديداً قولنا أن الشعائر التي تقام لإحياء ذكراه ضرورة من ضرورات المرحلة المعاصرة والمراحل المستقبلية، فهي فضلاً عن كونها ثيمة استذكارية، هي أيضاً ضرورة حضارية ارتبطت بالذاكرة الجمعية؛ لتعزيز المتطلبات النفسية التي امتدت لتشمل من هم من غير أتباع أهل البيت عليهم السلام، بل من غير المسلمين أيضاً، صرنا نشاهد الجموع المليونية البشرية ترتبط بشعائر عاشوراء ارتباطاً وجودياً ومصيرياً، ارتباطاً لاتوقيت ينتهي فيه كما في ارتباطات أخرى عبرت عنها مراحل مختصرة، عكس الارتباط بالحسين وبقضيته والطقوس الدينية التي تقام احتفالاً بها وبنصرها ذي البعد المستقبلي المستمر؛ لكونها من أساسيات التطهير الروحي للنفس البشرية.

اضف تعليق