q

إن دور الجامعات في تطوير المجتمع والدولة بات من البديهيات المسلّم بها، ولدينا على سبيل المثال ذلك الدور الكبير الذي تتصدى له الجامعات في امريكا مدعوما بالجهد الرصين الذي تقدمه مراكز البحوث والدراسات في المجالات العلمية المختلفة، لدرجة أن هذه المنظومة العلمية الجامعية تعد الأهم في مجال التطوير الاقتصادي والانتاجي عموما في الولايات المتحدة، من هنا وجدت الجامعات ما ينبغي لها من دعم، ووجد الكادر الأكاديمي كل ما من شأنه أن يطور قدراته العلمية ويجعله متميزا ومبدعا كي يبقى النموذج الأمثل لطلابه.

لهذا السبب كانت ولا تزال الدول الرصينة تعتمد على الكادر التدريسي الأكاديمي المتطور حيث تمثل مؤسسة التعليم العالي بما تنطوي عليه من جامعات مهمة، الركن الاساس لتقدم البلد، لذا كلما كان الاهتمام بالجامعات لاسيما الكادر التعليمي جديا من لدن الدولة، كانت هذه الدولة اقرب الى التقدم والتطور من سواها، وهكذا تمثل المنظومة العلمية الجامعية في أي بلد، ذاتا مستقلة، قوية، تتسم بالقدرة على التصحيح، والعطاء الدائم، في مجالات التخطيط، وبث الوعي العلمي والعملي في آن بين مؤسسات الدولة وعموم المجتمع، من هنا يأتي تفوق وتميز دور الجامعات في الدول المتحضّرة على سواها، لسبب واضح أن هذه الدول لمست النتائج الكبيرة في المجالات العلمية والانتاجية عندما أعطت للكادر التدريسي فرصة قيادة العلم وتطويره ومن ثم انعكاس ذلك على العملية الانتاجية في البلاد، ما أدى الى تطوير بنية اقتصادية يمكنها الصمود في وجه التغييرات الطارئة التي يحفل بها عالم اليوم، وليس أدل على ذلك من هذه الأزمات التي تضرب الاقتصاد العالمي بين حين وآخر.

فإذا كانت الدولة قوية اقتصاديا بما يكفي سيكون بمقدورها الصمود، وعلى العكس من ذلك عندما تكون الدولة ضعيفة فإنها تدفع ثمن ضعفها في حالات الاهتزاز والتراجع والضمور الاقتصادي بسبب عدم اهتمام الدولة بدور الكادر الأكاديمي العلمي الذي سينعكس على قوة الدولة والمجتمع أيضا، وهذه المنظومة ينبغي أن تكون في الغالب خالية من الشوائب الادارية والتعليمية، إلا ما ندر، لهذا ينبغي أن تكون قادرة على لعب دور محوري في تطوير الدولة والمجتمع، فالمؤسسة العلمية الجامعية في عموم الدول المتقدمة تمثل ركنا أساسيا من أركان بناء الدولة العصرية المنفتحة القائمة على الفكر المتطور وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال امتلاك كادر تدريسي متميز قادر على أن يشكل النموذج النوعي لعموم الطلبة.

الأبعاد المهمة للتعليم الجامعي

كذلك لابد أن يعي قادة البلد دور الاستاذ الجامعي في بناء الأسس المهمة لتطوير الدولة من خلال الاهتمام بالتعليم الجامعي حيث من المؤكد أن له أبعاد كبيرة وخطيرة في مجال حسم قضية التطور لصالح الدولة والمجتمع، لان عملية التعليم ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية، بالإضافة إلى كونها عملية مستمرة ليست مرتبطة بزمان ومكان وجيل معين، ومن هنا يأتي إدراك الواقع التعليمي فهو ليس مقصورا على جهة محددة إنما هو واجب يخص كل من يهتم بمستقبل شعبه ومصيره، ولكن سنتفق على أن فاقد الشيء لا يعطيه، وهي مقولة سمعناها وقرأناها وقمنا بتجريبها مرارا في حياتنا الفردية والجمعية، فعندما تهمل الدولة الكادر الجامعي ولا يجد الاستاذ الجامعي النموذجي الدعم الكافي المعنوي والمادي، فإن النتائج لابد أن تنعكس على الدولة والواقع العلمي على نحو العموم.

وقد لا نختلف عندما نقول أن الدولة الفاشلة هي تلك التي تهمل التعليم وتهمل الكادر التعليمي وتنشغل بالتفاصيل البسيطة، أو تنشغل بمصالح النخبة السياسية على حساب النخبة العلمية وسواها، وهذا سوف ينعكس على العملية العلمية برمتها، فمن لا يتملك الشيء لا يستطيع أن يمنحه للآخرين، والمنظومة الجامعية، إذا كان الزلل جزءً من سياقاتها، وأطاحت بها العلل الادارية او الحكومية أو سواها من الأمراض خاصة الاهمال الحكومي للكادر الأكاديمي، فإن هذه المنظومة العلمية الجامعية لا يمكن أن تقوم بدورها المحوري المذكور آنفا.

على سبيل المثال توجد لدينا في العراق منظومة جامعية عريقة في المدى المنظور والأعمق، منها ما تأسس قريبا، ومنها ما مضى على تأسيسها وبنائها عدد من القرون، وهذا يعني أن ثمة سياقا عمليا جامعيا ترسّخ وثبّتَ ركائزه عبر الزمن من خلال تثبيت ركائز دائمية تمثل تقاليد علمية أسهمت في تطوير العلم والانتاج عموما، ولا شك أن الاهتمام بدور الاستاذ الأكاديمي كان هو الأساس الأول والأهم في تطوير الدولة عندما أصبح الكادر التعليمي بصورة عامة والاستاذ الجامعي بصورة فردية يمثل النموذج الرائع للطلبة ما يعكس تطورا كبيرا في الجانب العلمي وانعكاسه على ركائز الدولة وقوة هذه الركائز من حيث كونها قادرة على دعم الدولة بالتطور العلمي ومواكبة ما يحدث من مستجدات عالمية، ولا يمكن أن يتم ذلك من دون تحقيق شرط الاهتمام بالكادر الاكاديمي الجامعي على وجه العموم.

سياقات خاطئة ينبغي تصحيحها

وقد تعود أسباب تذبذب دور المؤسسة الجامعية في تطوير الدولة الى بعض الأخطاء من داخل هذه المؤسسة، حيث يلاحظ المراقب ظهور سلسلة من الظواهر والاخطاء التي لا تليق بالدور الجامعي الرائد، فقد تتعلق الأخطاء بأفراد، كأن يكون الخطأ تصرّفا محدودا من لدن استاذ جامعي او عدد من الاساتذة، وهو أمر لا تخلو منه كبريات الجامعات في العالم، ولكنني أتحدث هنا عن سياقات جماعية تنخر في الجسد الجامعي، ولا يصح وجودها وتدخلها في آليات العمل الجامعي بشتى انواعه ومجرياته، مثال ذلك، الإشكالية المستديمة التي تخص العلاقة بين الاستاذ والطلبة، وهو امر يكاد يشكل ظاهرة، وقد تقف اسباب عدة في هذا المجال، منها فقدان الثقة بين الطرفين، والشعور الطائفي الذي قد يحضر في بعض النفوس الضعيفة، ثم قضية الكيل بمكيالين، وتفضيل الطلبة على بعضهم لأسباب تتعلق بطبيعة الانتماء، وهو أمر لا يصح انتشاره، ولا يجوز التعامل وفقا له مع الطلبة او الاساتذة، بالاضافة الى ذلك، بروز ظاهرة التكتلات في العمل الجامعي، وتحجيم الكفاءات، ومحاربتهم بشتى الاساليب، لأن الكفاءة غالبا ما تشكل خطرا على ضعيفي المواهب والمَلَكات، فضلا عن مضايقة الكفاءات وفضحهم لمروجي الفساد المالي والاداري في الحيّز الجامعي، وعلى العموم ينبغي أن ينصبّ الاهتمام الأكبر على دعم الكادر الأكاديمي ومساندة الاستاذ الجامعي النموذجي بالدرجة الاولى.

ولا شك أن هناك صفات ينبغي أن يتحلى بها الكادر العلمي، فالاستاذ الجامعي لابد أن يكون منزّها من كل العاهات النفسية الاخلاقية التي قد نجدها في الناس الذين هم أقل درجة من الوعي والدور المجتمعي، لأن الاستاذ الجامعي مثال ونموذج للآخر، في القول والفكر والعمل، أما أن يشترك النموذج الجامعي في خلق وترسيخ الظواهر المرفوضة، فهذا دليل قاطع على أنه لا ينتمي بروحه وأعمالة لمنظومة الجهد الجامعي البنّاء، بل هو دخيل على هذه المنظومة، ويسيء لها، لذا مطلوب أن تتدخل الوزارة المعنية ورئاسات الجامعات في عملية تصحيح شاملة ودائمة، وعدالة قائمة، وترسيخ للدور الرائد للجامعات في بناء الدولة والمجتمع، وقد يكون هذا الهدف صعب التحقيق ما لم يكن هناك اهتمام كبير في دعم الاستاذ الجامعي معنويا وعلميا وماديا ليكون هو ركيزة التقدم المجتمعي أولا لينعكس ذلك على تقدم الدولة في المجالات السياسية والاقتصادية كافة.

اضف تعليق