q

تعتبر حالة الزهد في قضاء حوائج المؤمنين في زمننا المعاصر حالة مرضية شائعة في المجتمعات، وذلك نتيجة عدة عوامل متعددة منها العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية وأهمها: الانغماس في حب الدنيا، وتكالب الناس على الماديات، وضنك المعيشة، والخوف من المستقبل، والتفكير في دائرة المصالح الشخصية والذاتية، وتفشي حالة الغش والكذب، وحصر باب الحاجة في الناحية المادية، والمصالح الدنيوية التي تجمع أغلب بني البشر، وعدم الإلمام بمستوى العطاء الإلهي في قضاء حوائج المؤمنين.

لكن مدرسة أهل البيت (ع) نظرت لقضاء حوائج المؤمنين كحالة حضارية لابد من إفشائها في المجتمعات الايمانية، لأنها حالة تضمن استمرار العيش الكريم للمؤمنين في مجتمعاتهم، وتنقلهم إلى درجة العبادة العملية لا العبادة القشرية التي ليس لها تأثير في سلوكهم وتعاملهم مع غيرهم، بالإضافة إلى الثواب الجزيل الذي ينتظرهم في الآخرة.

ولعل من أهم غايات قضاء حوائج المؤمنين في مدرسة أهل البيت (ع) هي صون كرامة المؤمن، والحفاظ على إراقة ماء وجهه، وعدم تكليفه طلب حاجته من غيره، لذلك كانت أولى التوجيهات التي دعا لها أئمة أهل البيت (ع) في هذا المضمار هي: المبادرة بقضاء حوائجهم بمجرد الشعور بحاجة اخوانهم للمساعدة، وهذه توصية حضارية غاية في الأهمية والتأثير الاجتماعي، حيث ورد عن رسول الله (ص): «لا يكلّف المؤمن أخاه الطلب إليه إذا علم حاجته»، كذلك نسجت مدرسة أهل البيت(ع) على هذا المنوال بأقوال عديدة تعكس حالة التضامن والتكافل الاجتماعي التي ترغب في إشاعتها بين المؤمنين، فعن أمير المؤمنين أنه قال: خير الإخوان من لا يحوج إخوانه إلى سواه.

ومن الغايات المهمة لقضاء حوائج المؤمنين في مدرسة أهل البيت(ع): الحرص على الثواب الجزيل الذي ينتظر المؤمن في الآخرة عند قضاءه حوائج إخوانه، فعن الإمام جعفر الصادق (ع): من قضى لأخيه المؤمن حاجةً قضى اللّه عزّ وجل له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك أوّلها الجنة.

بالمقابل حذرت مدرسة أهل البيت (ع) من التقصير فـــــي حق الإخوان وقضاء حوائجهم من أجل المحافظة على الجدار الاجتماعي بين المؤمنين من أي تصدّع، والحدّ من التحولات الاجتماعية التي تخل بقواعد العيش المشترك بينهم.

ولذلك كان لهذا التحذير والإنذار آثار عملية وخيمة في الحياة الدنيا، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: من صار إلى أخيه المؤمن في حاجته فحجبه، لم يزل في لعنة اللّه إلى أن حضرته الوفاة، وعنه (ع): أيّما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة، وهو يقدر على قضائها فمنعه إيّاها، عيّره اللّه يوم القيامة تعييراً شديداً، وقال له: أتاك أخوك في حاجة قد جعلت قضاؤها في يدك، فمنعته إيّاها زهداً منك في ثوابها، وعزّتي لا أنظر إليك، وعن الإمام موسى الكاظم (ع): من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله، فلم يجره بعد أن يقدر عليه، فقد قطع ولاية اللّه عزّ وجل.

ومن الآثار الدنيوية الخطيرة المترتبة على الزهد في قضاء حوائج المؤمنين ما حذر منه الإمام محمد الباقر (ع) شيعته في قوله: من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام له في حاجته، ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر!!.

وعن الإمام جعفر الصادق (ع): «أيّما رجل من شيعتنا أتاه رجل من إخواننا فاستعان به في حاجة فلم يعنه وهو يقدر، ابتلاه اللّه عزّو جل بأن يقضي حوائج عدوّ من أعدائنا يعذّبه اللّه عليه يوم القيامة!!.

لذلك أراد أئمتنا الطاهرين (ع) من شيعتهم أن يرتقوا إلى المستوى الإيماني الرفيع المقترن بالعبادة السلوكية، والمحافظة عليها بالمعاملة الحسنة من أجل بناء محيط اجتماعي سليم، كون الإيمان الكامل لا يتحقق على نحو مثالي إلا بالتكافل والتآزر الاجتماعي بين المؤمنين.

وكلما تكاتف الفرد المسلم مع إخوانه وتعاون معهم كلما ارتقى إلى مدارج إيمانية عالية، لذلك سبق أئمتنا (ع) علماء الاجتماع في سبل الدعوة إلى تقوية الأواصر الاجتماعية بين المؤمنين، من خلال السعي في قضاء حوائجهم، فقد ثبت أن قضاء حوائج المؤمنين يؤدي إلى ارتقاء الإنسان ورفع كماله الإيماني، لذلك حث ائمة أهل البيت (ع) شيعتهم على تحقيق أعلى درجة الاندماج والتعاون فيما بينهم.

لذلك نجد المؤمنين الساعين في قضاء حوائج إخوانهم هم المجددين للأمل في الحياة، والمحافظين على ماء وجوه إخوانهم، والنابتين لسنابل الخير، والمساندين لأهله، وإن كانوا قلة بين الملايين، فقد سُئل رسول الله (ص) من أحبّ الناس إلى الله؟ قال (ص): أنفع الناس للناس، وعن الإمام موسى الكاظم (ع): إنّ للّه عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }.

* القطيف – الأوجام

اضف تعليق