q

من المعروف أن متبني التوجهات العلمانية، ينادون دائماً بفكرة فصل الدين عن الدولة،أو السياسة كرؤية ثابتة تمثل الخلاص من كل المشكلات التي تواجه المجتمعات، وأصبحت من المسلمات التي تعد (حضارية).

ويعتقد دعاة هذا الفصل - التجارب أثبتت عكس هذا الإعتقاد - أن الدولة العلمانية محايدة بحيث تقف على مسافة واحدة من الأديان.

ومن متناقضات العلمانيين في نقاشاتهم مع أصحاب الرأي المختلف، أن الدينيين لايقبلون بغير المتدين رئيساً على سبيل المثال ؛ لأن المتدينيين هم الأكثرية، ويمكن دحض هذه الفكرة بمنطق مماثل، حيث أن الدول العلمانية تمنع منعاً باتاً أن يكون هناك رئيس دولة مالم يكن علمانياً حتى وإن كانت الأكثرية الشعبية متدينة، بل وتشترط على الرئيس أن يقسم بالولاء للدستور الذي يقضي بفصل الدين عن الدولة، وبذلك هي تجبر المتدين أن يتنازل عن بعض معتقداته فأين حرية المعتقد إذن؟

المشكلة هي أن العلمانيين أو أكثرهم يعتقدون بأن الدين ينظم العلاقة بين الفرد وربه، وكذلك ينظم العلاقة بينه وبين الفرد الآخر في بعض العلاقات، لكنهم ينفون صلة الدين بشؤون السياسة والدولة على الصعد الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، وكذلك لا صلة له بالأفكار، ويمكن لنا أن نستفهم عن المقصود بالعلاقات التي ينظمها الدين بين الفرد وأخيه الإنسان إن كان قاصراً حسب الرؤية العلمانية عن الحل في قضايا مثل السلم والحرب، أو تأسيس الدول وشكل نظامها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

هم لايكتفون بالنماذج التطبيقية الخاطئة لحكومات حكمت بمسميات عنوانها ديني، بل يتعدون في آرائهم إلى أصل التشريع الديني وخصوصاً الإسلامي، حيث يرون فيه قصوراً ؛ لأسباب لم تعد خافية على أحد، مستندين على أفق فكري ضيق يرى بعين واحدة، بل حتى هذه العين الأحادية تعاني من قصر نظر واضح.

لقد اكتفى العلمانيون في الشرق بترديد المقولات الوافدة من الغرب ببّغاوية سطحية دون الغوص في المسميات والمفاهيم وكأنهم مصداق لعبارة (حشر مع الناس عيد).

الدين مرآة الحضارة

من المفيد جداً حين نخوض بقضية فصل الدين عن الدولة أو السياسة، الحديث عن جدلية العلاقة بين الدين والحضارة، وهل كان الدين من اشتراطات نشوء الحضارة ؟

يقول الله تعالى : " كان الناسُ أمةً واحدةً فبعثَ اللهُ النبيينَ مُبشرينَ ومُنذرينَ وأنزل معهم الكتابَ بالحق ليحكمَ بين الناس فيما اختلفوا فيه ومااختلفَ فيه إلا الذين أوتوه من بعدِ ماجاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم / البقرة 213 ".

ليس السبب من الإستشهاد بهذه الآية المباركة تأكيد أسبقية الدين على الحضارة، مانريد الحديث عنه هو وجل اهتمامنا فيه هو التأكيد على أن الدين والحضارة أمران متلازمان، فلايمكن بطبيعة الحال فصل الحضارة الإسلامية عن الدين وعن جوهره ومبادئه، بل أن الدين صار كالمرآة التي ترى الحضارة من خلالها كل مامن شأنه الإبتعاد عن شريعة الغاب التي تبيح أكل القوي للضعيف بمنتهى الوحشية، ففي هذه المرآة توجد القوانين والأخلاقيات والإلتزامات، وأن ثلم زجاجها أو كسره سيجعل الحضارة فاقدة للبصيرة من دون شك. فالدين يمنح الإنسان ثقافة الحياة، ويشجعه على اكتساب العلوم المفيدة والمختلفة كالطب والرياضيات والهندسة وغيرها من العلوم التي ستساهم في رقي البشرية، ولايقف الدين -كما يتوهم المنادون بضرورة فصله- عائقاً بوجه العلم، أو يأخذ منه موقفاً حيادياً، بل العكس هو الصحيح، وهو ماأثبتته النصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية الشريفة، او أحاديث أهل البيت عليهم السلام، وعلى سبيل المثال لا الحصر : " إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علّم الإنسان مالم يعلم "، أو " أطلب العلم من المهد إلى اللحد "، أو كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : " من تساوى يوماه فهو مغبون "، هذه الشواهد والآثار وكثير غيرها تؤكد على الحركية المستمرة التي يقف الدين منها موقفاً إيجابياً فاعلاً ومؤكداً على ضرورة التطور والتجدد في كافة الأنساق الحياتية.

الغرب وبوادر التراجع

أمام بعض الحقائق التي لمسها الغرب في إدراك التأثير الديني على السياسة العالمية، ظهرت بوادر تراجع غربية تجاه بعض المُسَلّمات والثوابت العلمانية لدرجة تصريح وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، وهي المرأة المعروفة بانحيازها الكلي لقيم العلمنة في لقاء صحفي بقولها : (أعتقد أن تفهم التأثير الذي تمارسه العقيدة الدينية في الكثير من الصراعات والنزاعات، يعد مطلباً أساسياً يعين على إيجاد الحلول لها، أنا أعتقد في الواقع أننا بحاجة إلى إشراك الزعماء الدينيين في حل الصراعات…… ؛ لأنه لايمكن فصل الناس عن معتقداتهم الدينية).

كلام الوزيرة الأميركية اعتراف صريح بتأثير المعتقد الديني في حياة الناس، وهو يؤشر - التصريح - إلى خلل في الأساس الذي انطلق منه دعاة العلمانية في فصل الدين عن الدولة، وأدركو أن مفهومهم الخاطئ لهذا الفصل يقودهم إلى فصل القيم الإنسانية والأخلاقية مجتمعة في الدين عن حياة الناس.

قد يعترض أحد متبني فكرة فصل الدين ويقول أن هذا مجرد تصريح صحفي لوزيرة وليس بالضرورة أخذه كأمر مُسَلَّمٍ به في فشل العلمانية وانتصار منطق الثبات على المعتقدات الدينية، وإجابتنا عليه هي : ماتقول في اعتراف ألمانيا وهي الدولة التي يمثل فصل الدين عن الدولة فيها ركيزة أساسية لقيام نظامها السياسي، حين تعترف بالدور الأساسي والمهم للكنيسة في صنع القرار السياسي عبر تأثيرها الكبير على الأحزاب السياسية، والرأي العام هناك ؟

وماتقول في قول روس داوت : ( إن أوروبا تتحول إلى مزيد من الدين ) ؟

المشكلة أن العلمانيين عندنا في الشرق استوردوا مفاهيم تخلى عنها مروجوها الأصليون، ومع ذلك لا زالوا مصرين على تبنيها وكأنهم في حالة انفصام عن الواقع ومجريات الأحداث والتحولات الحاصلة، أو ربما هم انفصلوا بدلاً من الدين المنادين بفصله!

القالب الجاهز

يعترف بعض العلمانيين في الشرق أنهم انطلقوا في تجربتهم من العلمانية بنسختها الغربية، واتخذوها قالباً جاهزاً تم نقله إلى الشرق، فضلاً عن عدم اتفاقهم على تعريف محدد للعلمانية، فبعضهم قال انها العلم أو العولمة أو كلاهما.

قد نتوقف عند الإعتراف الأول في نقل العلمانية الغربية إلى الشرق، فنسأل : هل هناك علمانية جهوية؟وهل ثمة مبادئ واشتراطات لعلمانية هذه الجهة تختلف عن تلك؟إذا كانت في الغرب تعني فصل الدين عن الدولة، فهل هي في الشرق فصل الدولة عن الدين ؟

هذا المنطق يمثل وجهاً جديداً من أوجه السقطات التي وقع فيها متبنو العلمنة الذين لم يستطيعوا إخفاءها أو إزالتها من الوجه العلماني المتجعد.

أما الإعتراف الثاني، فهو يمثل الطامة الكبرى، فعدم الوصول إلى تعريف محدد يمكن استيعابه في ظل الجدل والحفر في المفاهيم الفكرية والإيديولوجية، غير أن نسبتها للعلم أو العولمة لاشتراكها مع هذين المفهومين ببعض الحروف، هو ما يبعث على الضحك الشديد.

ولعل أكثر أسباب تراجع العلمانية، هو ذلك التشتت بين مفهومي الليبرالية والشيوعية، فكل منهما يدعي قيادة سفينتها إلى شاطئ الأمان،وظل الصراع على قيادة السفينة ملتهباً بين الطرفين في وقت تلاطم الأمواج الفكرية العاتية، وصراع اثبات الوجود مع التحولات والمتغيرات المتسارعة.

وصار من المهم الإعتراف الحقيقي بأهمية المعتقدات الدينية و التنازل عن الفوقية غير المبررة في نظرة العلمانيين لها، وفهم طقوسها وتمثلاتها التي تمثل عامل طمأنينة للنفس البشرية، خصوصاً مع ارتباط هذه الطقوس بالله، وماكان لله ينمو.

اضف تعليق