q

بعد تطور وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال التي فجرت معها ما عرف بثورة المعلومات، تفتح وعي العالم على ظاهرة التكفير الديني، نتيجة انبعاث واسع ومخيف لأفكار ونزعات التعصب والتطرف التي لا تقبل التعايش مع الآخر مهما كانت طبيعة هذا الآخر وهويته، ولا التواصل معه أو الانفتاح عليه، ولا تتعامل إلا بذهنية الإلغاء والإقصاء، وبمنطق القسوة والصدام، وبمنهج الأُحادية واحتكار الحقيقة المطلقة.

وقد أطلقت هذه الأفكار والنزعات موجة من الكراهية الدينية أثارت معها حفيظة العالم، وفي مقدمتهم العقلاء والحكماء في كل الأديان والمذاهب والجماعات، الذين أخذوا يحذِّرون من خطورة تفشي وتنامي مثل هذه الظاهرة، وعبورها وامتدادها بين المجتمعات الإنسانية، وظلوا يطالبون بتضامن إنساني وعالمي للوقوف بوجه هذه الظاهرة، والإعلان عن رفضها ومقتها والتشنيع بها.

وحقيقة الأمر أن المشكلة ليس في الاختلافات التي ظهرت وتظهر بين الأديان والمذاهب والجماعات، إنما في تحول هذه الاختلافات إلى كراهية، وإعطائها تسويغات دينية تحرِّض على التنافر والتباعد والتباغض، وقد يتطور الأمر ويصل الحال إلى الدعوة لعدم مجالسة المختلف معه، والابتعاد عن مجاورته، وترك توقيره ومكالمته ومجادلته، وعدم بسط الوجه له، وحتى السلام عليه.

وإن منبع المشكلة يكمن في وجود فئة من الناس تحترف الكراهية وتمتهن القتل، فهي لا ترى العبادة إلا عبر إراقة دماء الناس ذبحاً وإزهاق أرواحهم تفجيراً. والغريب، أن التحريض العلني ضد الشيعة أصبح مشاعاً بشكل ملحوظ، ويأتي من حكام وفقهاء وسياسيين ومثقفين وإسلاميين وعلمانيين، ففي كل يوم تنعق وسائل الإعلام بدعوى أو فتوى تحرّض على قتل الشيعة. وهذه الفتاوى تتمحور حول اعتبار (عموم الشيعة كفرة مشركين)، وإن (خطرهم على المسلمين أعظم من خطر اليهود والنصارى، ويجب الحذر من الشيعة، وعدم الاغترار بما يدعونه من الانتصار للإسلام)، وإن (مذهب أهل السنة ومذهب الشيعة ضدان لا يجتمعان، ولا يمكن التقريب إلا على أساس التنازل عن مذهب السنة أو بعضها أو السكوت عن باطل الرافضة، وهذا مطلب لكل منحرف عن الصراط المستقيم)، وأن (الخطر يكمن في عموم الشيعة، فقهاء ومواطنين عاديين، لأنهم متعصبون لا يستجيبون لداعي الحق).

ودفعاً لشرور الفتنة التي يراد تفجيرها بين مكونات المجتمع، وعلى وجه الخصوص بين السنة والشيعة لتحترق البلاد والعباد، لابد من التذكير بفتاوى على الضد من تلك الفتاوى التكفيرية، فلا تخلو الساحة من أصوات العقلاء الذين يقدمون الإسلام بسماحته، فإن من الموضوعية القول بأن التكفيريين شرذمة إجرامية، غريبة عن أمة العقل والعدل والرحمة والمحبة.

يرى شيخ الأزهر السابق د. محمد سيد طنطاوي (لا فرق بين السنة والشيعة، وأن كل من يشهد أن لا الله إلا الله فهو مسلم، وإن الخلاف إن وجد فهو خلاف في الفروع وليس في الثوابت والأصول، والخلاف موجود في الفروع بين السنة أنفسهم والشيعة أنفسهم). وقال (إن كل من يحاول إشاعة الخلاف بين السنة والشيعة مأثوم).

وفي سياق تكذيب الشائعات –القديمة الجديدة وما أكثرها- التي تضلل الناس وترسم صورة مغايرة تماماً عن فقه الشيعة وواقعهم، قال شيخ الأزهر د. أحمد الطيب: (حينما تكون هناك فضائيات تحكم بكفر الشيعة، هذا شيء مرفوض، وغير مقبول، ولا نجد له مبرراً، لا من كتاب ولا سنة ولا إسلام. نحن نصلي وراء الشيعة، فلا يوجد عند الشيعة قرآن آخر، كما تطلق الشائعات، وإلا ما ترك المستشرقون هذا الأمر، فهذا بالنسبة لهم صيد ثمين، ولي بحث في هذا المجال، فإن جميع مفسري أهل السنة من الطبري وحتى الآن، لم يقل منهم أحد أن الشيعة لديهم قرآن آخر. لا يوجد خلاف بين السني والشيعي يخرجه من الإسلام، إنما هي عملية استغلال السياسة لهذه الخلافات).

د. عبد الصبور مرزوق، الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في جمهورية مصر العربية، ومدير رابطة العالم الإسلامي، والمفكر والمؤلف والأستاذ الجامعي (ت 1429هـ)، يؤكد: (ثبت بالدليل القاطع، أنه لا يوجد لدى الشيعة قرآن خاص بهم، ولا يوجد ما يقال عنه مصحف فاطمة، فهو غير صحيح).

كما تم اعتماد المذهب الجعفري، ليدرس في جامعة الأزهر، وإلى الآن يدرس بالفعل. فإن الشيخ محمود شلتوت كان قد أصدر في الستينات (فتوى أثارت جدلاً كبيراً، وأجازت الفتوى التعبد بمذهب الشيعة الإمامية، وقد عضد الشيخ محمد الغزالي هذه الفتوى برأيه فيها. وتقول الفتوى كما وردت على لسان الشيخ محمود شلتوت: (إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معين، بل إن لكل مسلم الحق في أن يقلد – بادىء ذي بدء – أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل لغيره من المذاهب، ولا حرج عليه في شيء من ذلك، وأن مذهب الجعفرية المعروفة بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي على المسلمين، أن يعرفوا ذلك، ويتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله، وما كانت شريعته لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق بين العبادات والمعاملات).

يقول الإمام الشيرازي(قده) في محاضرته عن (واقع الشيعة): لقد كان ابتعاد بعض أهل السنة عن الشيعة شيئاً على خلاف الإسلام الذي ينصّ بوجوب وحدة المسلمين، كما قال سبحانه: (وإنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)، وعلى خلاف رغبة علماء السنة العظام قديماً وحديثاً، فانظر إلى كلام العلامة الذهبي، الذي هو من أعاظم العلماء، إذ يقول في (ميزان الاعتدال ج1 ص5): (فهذا ـ أي التشيّع ـ كثر في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو ردّ حديث هؤلاء ـ أي الشيعة ـ لذهبت جملة الآثار النبوية). وقد ذكر العلامة الأجلّ شرف الدين في كتابه القيّم (المراجعات) أسماء مائة من رجال الشيعة الذين أخذت عنهم العلماء في كتب الحديث وغيرها.

وقد اقتفى آثار أولئك السابقين من العلماء في هذا الأمر العديد من العلماء، فقال شيخ الجامع الأزهر (الأسبق) في فتواه التي نشرتها مطبعة دار البصري ببغداد سنة 1385هـ في كتاب (المؤتمر الإسلامي العراقي) ما نصّه: (فقد عملت منذ تقلّدي منصبي في العام الماضي على جمع كلمة المسلمين، وإزالة ما بينهم من خلافات مذهبية، وقد سرّني أن يلبّي الدعوة ـ أي دعوة المؤتمر ـ علماء خمس وثلاثين دولة إسلامية، وفي مقدمتهم علماء العراق)، ثم ذكر أنه تشرّف برئاسة موسوعة في الفقه تعد موسوعة فقهية للمذاهب الإسلامية، بما فيها المذاهب الأربعة المعروفة، ومذهب الزيدية والشيعة الإمامية.

اضف تعليق