q

ضمور حق التصويت

الحقيقة الصادمة في المشهد الانتخابي الاميركي ان قلة من المهتمين والاخصائيين يدركون غياب نص "حق التصويت" في أهم وثيقيتين للكيان السياسي الاميركي: الدستور وعريضة الحقوق المدنية. سمحت الولايات الاميركية الفتية للفرد بالتصويت "شريطة توفر الملكية لديه؛" وتدريجيا تم السماح لكافة الرجال الادلاء بأصواتهم، اعقبه نضال وصراع مرير اثمر في نهاية الأمر على حصر الممارسة الانتخابية ببلوغ الفرد السن القانونية، الثامنة عشر.

وبرز هذا "الغياب" في انتخابات عام 2000، بين جورج بوش الابن وآل غور، عقب توجههما للمحكمة العليا لحسم النتائج الانتخابية. وجاء في سياق قرار المحكمة ان "المواطن الفرد لا يتمتع بحق دستوري فيدرالي للتصويت على مرشح لرئاسة الولايات المتحدة...،" استنادا للنص الدستوري.

التاريخ السياسي القريب يعيدنا الى سعي محموم للحزب الجمهوري، تحديدا، لإعادة تعريف وتوزيع الدوائر الانتخابية بصيغة تضمن تفوقه واقصاء الاقليات او المشكوك بولائه للمؤسسة الحزبية.

اما تعليل غياب النص فيعيده بعض الاخصائيين في القانون الدستوري الاميركي الى عزم المؤسسة الحاكمة بقاء سيطرتها وتحكمها بمسار السلطة وصون الامتيازات الاقتصادية وتكديس الثروة والملكية بين نخبها، وايلاء "مسائل الانتخابات الشائكة الى سلطات الولايات المحلية."

يشار في هذا الصدد الى ان النصوص الاصلية للوثائق الدستورية التي حصنت الدورة الانتخابية من دخول عناصر غريبة وابقائها ضمن دائرة ضيقة من النخب والبيض تحديدا، وحصر "حق التصويت" بأصحاب الاملاك – اي اقصاء المرأة والرقيق منذ البدء. بل حذر جون آدامز، الرئيس الثاني للولايات المتحدة الفتية، من سعي "المرأة للمطالبة بحق التصويت.." لتبرير اصطفافه للنص الخاص بملاك الاراضي واصحاب الثروات.

جدير بالذكر ان دساتير دول عدة مثل "افغانستان والعراق وسوريا،" تنص بصريح العبارة وتضمن حق التصويت المقدس لكافة المواطنين دون تمييز – وهي الساحات التي تعاني ويلات الحروب الاميركية "لنشر ديموقراطيتها."

سلطة المؤسسة تتراجع

استمر المشهد الانتخابي الاميركي واقتصاره على مشاركة البيض من الرجال واصحاب الاملاك حصرا لمنتصف عقد الستينيات من القرن العشرين، غير عابئ بسلسلة من القرارات ومواد التعديل الدستورية الخاصة بذلك. ودشن عهد الرئيس الاسبق ليندون جونسون المصادقة الرسمية على "قانون حق التصويت،" عام 1965، موكلا مهمة تطبيق بنوده على جميع الولايات المكونة في عهدة الحكومة الفيدرالية والتدخل بالقوة عند الحاجة.

وعليه، دخلت الولايات المتحدة مرحلة جديدة وفريدة في انضمام مواطنيها من "الاقليات : السود والاسيويين وذوي الاصول اللاتينية" ومشاركتهم في ترجيح كفة الانتخابات، تحت سقف ثنائية تبادل السلطة بين الحزبين. بيد ان المسألة في محصلة الأمر بقيت في يد "الهيئة الانتخابية" المكونة من اعضاء لم يتم انتخابهم للمصادقة على النتيجة النهائية، بل اختيروا بعناية فائقة لضمان استمرارية تمركز السلطة بيد النخب الاصلية.

الهروب الجماعي لمواطني دول اميركا اللاتينية لتلافي اخطار الحروب "التي رعتها ومولتها الولايات المتحدة،" منذ سبعينيات القرن الماضي تحديدا، ادى لتعزيز ثقل المجموعة ديموغرافيا وتحسس "البيض" من تنامي اعدادها باضطراد. بل اعتبر البعض ان تلك المجموعة ربما تحتل المرتبة الثانية من حيث العدد والنفوذ.

التحولات الديموغرافية في العقود الاخيرة سلطت الاضواء على حضور مكثف للجالية الاسيوية، دول شرقي آسيا تحديدا، والتي نافست الجالية اللاتينية وبلغت معدلات نموها الاعلى بين "الاقليات" الاخرى.

تضم الجالية الاسيوية ستة مجموعات عرقية متباينة من: الصين، الفيليبين، الهند والباكستان، فييتنام، كوريا واليابان. الاصول العرقية تلعب دورا حاسما في توجهات تصويت كل مجموعة على حدة.

تشير الاحصائيات الرسمية الى ان حجم الصوت الانتخابي للجالية الاسيوية يبلغ نحو 10 مليون ونيف، مشكلا نحو 4% من مجمل الاصوات الانتخابية كافة – اي ما يعادل ضعف اصوات الناخبين اليهود في اميركا.

حداثة الحضور الاسيوي الفاعل تجعل من العسير التعرف على كنه التحولات والتوجهات، بيد ان اشهر الدراسات الاحصائية وقياس الرأي العام تشير الى غلبة التأييد للحزب الديموقراطي بنسبة 2 الى 1. الانتخابات النصفية لعام 2014 دلت على ان الحزب الجمهوري حصل على نسبة 50% تأييد من الاسيويين، مقابل 49% للحزب الديموقراطي.

سرعة التحول داخل الجالية الاسيوية اثارت دهشة العديد من المراقبين واخصائيي العملية الانتخابية. استطاع المرشح اوباما آنذاك الفوز بتأييد 62% من اصوات الاسيويين في جولة انتخابات عام 2008، وتصاعدت نسبة التأييد الى 73% في انتخابات عام 2012. التأييد الشعبي العارم للحزب الجمهوري، عام 2010، لم يترجم بتأييد مماثل من قبل الجالية الاسيوية، اذ لم يفز على اكثر من 40% من الاصوات.

من ضمن مكونات الجالية الاسيوية يبرز ذوي الاصول الفيتنامية كاكبر مجموعة تدعم مرشحي الحزب الجمهوري – اذ تعود ميولهم السياسية الى امتنانهم للقوات الاميركية ابان العدوان الاميركي ومعاداة النظام الشيوعي في بلدهم الاصلي، قبل استدارة النظام في حقبة العولمة نحو واشنطن وتطبيق خططها الاقتصادية. يقطن عدد لا بأس به من تلك المجموعة في ولايات مطلة على خليج المكسيك، واسهمت في ضمان تفوق الحزب الجمهوري في عدد من ولايات الجنوب. كما تشير استطلاعات الرأي بانتظام الى ان الجسم الاكبر الانتخابي المؤيد للمرشح ترامب بينها هو الجالية الفيتنامية.

وساهم تأييد الجالية الفيتنامية بأغلبية ملحوظة بفوز السيناتور الجمهوري عن ولاية تكساس، جون كورنين، في انتخابات عام 2014؛ وكذلك الأمر مع عضو مجلس النواب الجمهوري غريغ آبوت الذي نال 52% من اصوات الجالية.

توجهات الجاليات الاسيوية

الادلة المادية والقرائن التي تتعلق بتوجهات سياسية تلك الجالية اما غائبة او غير ناضجة، مما يعقد مسألة التكهن بوجهة تصويت الاغلبية في الانتخابات المقبلة. احدث دراسة متوفرة في هذا الشأن اجرتها "الرابطة الاسيوية وجزر المحيط الهاديء" في وقت مبكر من العام الجاري، اقتصرت على تبيان نسبة التأييد لكلا المرشحين، ترامب وكلينتون، اذ نال الاول اكبر نسبة معارضة. بيد ان التحولات الكبرى الجارية في معسكر الطرفين مؤخرا تحيل التكهنات السابقة الى رؤى غير موثقة، في افضل الاحوال، رغم ميول شعبي متزايد لتأييد الحزب الديموقراطي.

قراءة التحولات تتجلى بشكل اكبر في مدى تأييد الرئيس اوباما بين مكونات الجالية؛ اذ نال اوباما تأييد 67% من عموم الجالية الاسيوية، مقابل تأييد نسبة 40% بين عموم الجسم الانتخابي. اما المكون الآتي من شبه الجزيرة الهندية فقد اعطى تأييده بأغلبية ساحقة لاوباما، بلغت 84%؛ مقابل تأييد 56% من الناخبين الصينيين. اما اكبر نسبة عدم رضى عن اداء الرئيس اوباما فقد سجلت في صفوف الفئة العمرية من 35-64، اذ نال نسبة 29%.

تأييد اغلبية ساحقة من ذوي اصول شبه الجزيرة الهندية للرئيس اوباما يعود ايضا لنسبة تأييدها المرتفعة للمرشحة كلينتون، وهي الاعلى بين صفوف المكونات الاسيوية الاخرى. وتحظى كلينتون بنسبة تأييد معتبرة ايضا بين صفوف حديثي العهد الاسيويين، قدرت بنحو 43%.

من الملاحظ ان نسبة تأييد اعلى لحديثي العهد الاسيويين ذهبت لصالح المرشح بيرني ساندرز، بأغلبية 54%، في مرحلة الانتخابات التمهيدية. يقاس على ذلك تأييد "غريزي" لأغلبية معتبرة ليس لتوجهات الحزب الديموقراطي الليبرالية، نسبيا، فحسب بل لقناعة متجذرة بضرورة قيام الدولة المركزية بمهامها وتوسيع نطاقها وتقديم خدمات اعلى. الحزب الجمهوري، بالمقابل، ينادي بتقليص دور الدولة في المجتمع وخصخصة ما استطاع من خدمات وما يرافقه من تآكل نظام العدالة الاجتماعية.

حددت مؤسسات الاستطلاعات سلم اولويات اهتمام الجالية الاسيوية بالقطاعات التالية: التربية والتعليم؛ الرعاية الصحية؛ الارهاب؛ فرص العمل؛ وترتيبات التقاعد. نظرة فاحصة على ترتيب الاولويات تدلنا على تباينها بعض الشيء عن اهتمامات الجمهور الانتخابي العام، لا سيما في ايلائه اولوية عالية لحال الاقتصاد، الارهاب، الرعاية الصحية، الهجرة، والتربية والتعليم في اسفل سلم الاولويات.

كان ملفتا للمراقبين موقف الجالية الاسيوية من مسألة اقتناء السلاح الفردي: اذ أيد نحو 50% من الفئة العمرية الاعلى، 65 فما فوق، ادراج المسألة ضمن سلم الاولويات؛ بينما الفئة العمرية البالغة من 18-34 عاما أيدت المسألة بنسبة 25%. الجيل الآسيوي المولود في الولايات المتحدة لا يولي مسألة اقتناء السلاح أهمية عالية، مما قد يعطي مؤشرات ادق حول توجهات الجيل الناشي الاميركي بشكل عام في هذه المسألة "المفتعلة."

نفوذ الجالية الآسيوية

استنادا الى ما تقدم لتأييد الجالية مناصفة تقريبا بين الحزبين، استنادا الى احصائيات عام 2014، فان تودد الحزبين لنيل الكفة الراجحة من التأييد تتعاظم اهميتها لاستمالة أكبر عدد ممكن، مع إدراك الطرفين لتدني مشاركة اعضاء الجالية ضمن مناطق سكناهم، فضلا عن الحاجز اللغوي الذي يفصل حديثي العهد عن المشاركة الفاعلة.

ديموغرافيا، تميل الجالية الآسيوية للتمركز في المدن الكبرى، التي يصنف ولاؤها تحت لائحة الحزب الديموقراطي، مما سيقلص نية اعتماد الحزب المنافس على التحرك بحرية داخل تلك الدوائر، مع الاخذ بعين الاعتبار انخفاض مستوى المشاركة في التصويت. بيد ان التغيرات الاخيرة تشير الى تنامي الوجود الآسيوي في ولايتي فرجينيا ونيفادا اللتان ستشهدان منافسة قوية بين الحزبين، وبذلهما جهودا ملحوظة لكسب ود القسم الاعظم من الجسم الانتخابي.

الحواجز اللغوية المتأصلة بين ابناء الجالية الآسيوية تعد الاعلى نسبة بين صفوف الجاليات الاخرى، اذ تشير الاحصائيات الرسمية الى نسبة متدنية لا تتعدى 35% تتقن التخاطب باللغة الانكليزية، بينما يستخدم جمهور اكبر، 77%، لغات اخرى غير الانكليزية للتخاطب اليومي.

تتضح الهزة اللغوية بشكل أكبر عند النظر الى مصادر الاحداث والانباء التي تستند اليها الجالية الآسيوية، بشكل عام: 43% من الناخبين الاسيويين يعتمد على وسائل اعلام وصحف "اجنبية" كمصدر ثقافي واعلامي؛ وتتسع الفجوة اكثر بالنسبة للجالية الصينية اذ تبلغ نسبة اعتمادها على مصادرها الاصلية نحو 60%؛ وتقاربها الجالية الكورية بنسبة 58%؛ وتتفوق عليها الجالية الفيتنامية بنسبة 72%. اما الجالية القادمة من شبه الجزيرة الهندية فتنخفض نسبة اعتمادها على مصادرها الأم بنسبة كبيرة، 3%.

من نافل القول ان الجيل الناشيء في صفوف الجالية يلجأ الى شبكة الانترنت ووسائط التواصل الاجتماعي لتلقي مصادر معلوماته.

ميول التصويت الآسيوي

من غير المرجح ان تفلح جهود الحزب الجمهوري في التعويل على نسبة تأييد تقارب او تماثل النسب التي تمتع بها عام 2014، 50%، في الدورة الانتخابية الجارية. يعود ذلك الى تبني المرشح ترامب وبرنامج الحزب الجمهوري موقفا متشددا بل معاديا للهجرة، وقد تتحول تلقائيا نسبة التأييد الى المرشحة كلينتون.

الجمهور الآسيوي في ولايتي نيفادا وفرجينيا بالتحديد يميل لتأييد التوجهات المحافظة، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وربما تذهب أغلبيته للاصطفاف الى جانب المرشح ترامب مما قد يعدل الكفة الراجحة العامة لصالحه نظرا للأهمية الاستثنائية لهاتين الولايتين في النتيجة العامة.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق