q

فاجأ أحد التلاميذ في الصف الاول المتوسط، استاذه لمادة الجغرافيا والتاريخ، وهو يتكلم عن الحرية الفردية ومزاياها، بأن ما يدعو اليه من تحرر المرأة من القيود، لاسيما مثاله المثير بوجود المرأة بملابس "البكيني" على ساحل البحر، فسأل هذا الطالب ببراءة وإشفاق، فيما اذا كان عمل المرأة هذا قد يعرضها لنار جهنم يوم القيامة، فما كان أسرع منه بالإجابة: "وهل فعلت أمراً سيئاً حتى تدخل النار"؟!.

وحتى لا يقع في روع أحد، فان هذه الواقعة لم تحصل في الوقت الحاضر، وإنما في سني الثمانينات، وفي مدينة كربلاء المقدسة، عندما كان هذا "الاستاذ" يحاضر في درس "ثقافي – حزبي" مرفق قسراً في نهاية الحصص الدراسية الرسمية.

من المتوقع جداً ان تستند حملات تغيير اجتماعي وفكري الى قيم انسانية كبيرة بغية استجلاب التفاعل الانساني مع المشروع التغييري الجديد، والحرية تقف دائماً في طليعة هذه القيم كشعار لامع يثير الحوافز والمشاعر، لاسيما في أوساط مكبلة بقيود فكرية واجتماعية، وهذا من حيث المبدأ أمر محبب بل ومطلوب حضارياً، وكان الاسلام من رواده، عندما بشّر الانسانية بالحرية الحقيقية، ليس من شكل واحد من العبودية، وهي الرق، بل ومن اشكال أخرى؛ مثل العبودية للذات وللمادة، بيد أن المشكلة تحصل عندما تنقل الرسالة بشكل خاطئ فتعطي دلالات بعيدة عن المعنى الحقيقي فيتورط الانسان طيلة حياته، بل الاجيال ايضاً، بسبب "كلمة حق يُراد بها باطل".

وهي الورطة التي سقط فيها رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس عندما اراد استخدام الحرية سلاحاً ضد مسلمات فرنسيات يرغبن بممارسة هذه الحرية بما يرين مناسباً لهنّ، وبالرغم من هدوء العاصفة حول حظر ملابس البحر المحتشمة "البوركيني"، إلا هذه الشخصية البارزة في الدولة الفرنسية، غلبها التسرّع في إعادة إثارة هذا الموضوع في تصريحات جديدة، وهذه المرة من خلال استعارة عدّها الغالبية العظمى من الساسة والمثقفين، بأنها كان "حمقاء"، عندما ربط بين الحرية وبين لوحة فنية شهيرة تظهر فيها امرأة خلال الثورة الفرنسية، ترمز الى التحرر من قيود الملكية والكنيسة، ومكمن الاثارة في اللوحة، أن الرسام ، اختار للمرأة المتوثبة صدراً عارياً، وقد انتهى من هذا العمل الفني عام 1830، أما قراءة رئيس الوزراء الفرنسي، فلم تكن فنية ولا ثقافية كما يجب، إنما وصف اللوحة "الحرية تقود الشعب" ورمزية المرأة "ماريان" بأنها "تكشف صدرها لإطعام الناس، إنها لا ترتدي الحجاب لأنها حرة..."!.

على ما يبدو؛ فان رئيس الوزراء الفرنسي بعد لم يدرك آثار "السقطة العلمانية" الاولى عندما اطرب وابتهج لقرار عمدة مدينة نيس الساحلية بحظر البوركيني، ثم أعرب عن تذمره من قرار مجلس الدولة الفرنسي -وهو أعلى مستوى في القضاء الإداري بالبلاد- بإلغاء الحظر بدعوى أنه يتعارض مع مبادئ العلمانية ومرتكزاتها في فرنسا، أقلّ الآثار ما قاله الكاتب والمحلل السياسي الفرنسي بيير بيرتيلو من "إن هذه القضية أضرت بسمعة فرنسا كبلد للحريات والقانون، وإن هناك حالة عاطفية وليست عقلانية بشأن قضية البوركيني"، فيما قال النائب الاشتراكي بينوا هامون: إن قضية البوركيني "يعد استهزاء بالعلمانية الفرنسية"، حتى وزيرة التعليم من أصل مغربي، نجاة فالو بلقاسم، التي أيدت الحظر قالت: ان "الدوافع وراء حظره سياسية، وتفتح المجال أمام المشاعر العنصرية".

في المرة الاولى، تصور فالس أنه نجح في طمأنة الشارع المؤيد للمعسكر الاشتراكي بأنه وحزبه المتوثب للانتخابات الرئاسية، سيمتطي صهوة العلمانية ويتصدّى لما وصفه بـ "الشمولية الاسلامية" في فرنسا، وفي تجمع للحزب الاشتراكي حضره شخصيات سياسية عديدة، خاطب مشاعر الرأي العام بأ، "الفرنسي يتعين عليه أن يتحلى بالوطنية ويقف أمام الشمولية الإسلامية...".

وقطعاً فان فالس لا يجهل ما تتضمنه القوانين العلمانية في بلاده من حقوق وحريات لاصحاب الديانات في فرنسا، وأن مبدأ فصل الدين عن الدولة الذي يعد قضية خاصة بالفرنسيين وحدهم، لا دخل له بحياة المسلمين او اليهود او البوذ الحاصلين على الجنسية الفرنسية، بيد أنه – ولربما- في قرارة نفسه يعد أن هذه القوانين والمزايا –العلمانية- لا تعني هؤلاء إنما تعني المسيحيين وحدهم، كما حصلت المحاججة في العقود الماضية على خلفية محاولات حظر الحجاب، بأن غطاء الرأس للفتاة المسلمة، يمثل علامة تمييز دينية، بينما لا يكون كذلك بالنسبة للصليب على صدر الفتاة او الفتيان.

هذا الاستغفال من شخصية يفترض ان تكون الرائدة في التطبيق الصحيح للعلمانية، دفعته لأن يسقط في مطب ثانٍ عندما أحرج النخب السياسية والثقافية في آن، بخلطه بين الحرية كقيمة انسانية، وبين الجمهورية كخيار للحكم، في قراءته القاصرة للوحة "الحرية تقود الشعب"، وتسبب بإحراج شديد في فرنسا، عندما قرن بين تعرّي المرأة (في اللوحة)، وبين التطبيق الحقيقي للحرية، مما أثار استهجان واستنكار واسعين، حتى ان البعض حاول تعديل التصريح لاستيعاب الصدمة، وكان اكثر هذه المحاولات إثارة بحد ذاتها ما أدلت به ماتيلدا لارير، خبيرة تاريخ الثورة الفرنسية، من "إن استخدام رمزية ماريان كان على سبيل المجاز، والإشارة إلى صدرها العاري مجرد دلالة فنية لا علاقة لها بالأنوثة"! فيما الشخصية الرئيسة في اللوحة هي امرأة!

ربما تكون الدوافع السياسية صاحبة الكلمة الفصل في كل ما يجري حالياً في فرنسا، نظراً الى الاجواء المشحونة دولياً ضد "الارهاب" في العالم وفي فرنسا تحديداً، ومحاولة الساسة هناك الى توظيف هذا الملف ليكون مرقاة للوصول الى قصر الاليزيه، بيد أن هذا الاستغراق السلطوي يبدو انه يفتح المجال واسعاً أمام بلورة تناقضات جديدة في العلمانية، كمبدأ وفكرة وخيار لنظام الحكم، سواءً في فرنسا، أو أي مكان بالعالم، لاسيما في البلاد الاسلامية، ولعل القارئ والمتابع في بلادنا يتسائل ببراءة، تشبه براءة ذلك التلميذ الذي أخاله اليوم رجلاً هرماً يشارف الخمسين عاماً؛ ما اذا كانت العلمانية تواجه هكذا تحديات في التطبيق والصعوبة البالغة في التعامل مع الالتزامات الدينية في مهدها (فرنسا) فما بالها في البلاد الاسلامية التي لها ظروفها الاجتماعية والسياسية الخاصة التي تختلف كليةً، مع ما كان يعيشه الفرنسيون في الايام الاولى للثورة الفرنسية عام 1789، وفي عام 1871 عندما تم إطلاق فكرة العلمانية، لأول مرة كخيار لاستعادة كرامة وانسانية الشعب الفرنسي التي استبيحت بحروب دموية طاحنة، اعتقد القادة الفرنسيون آنذاك أن الترسبات الكنسية في الفكر السياسي هي السبب وراء هزائم منكرة ألحقت بفرنسا فر حروبها الخارجية، وقد انتظر الفرنسيون حتى عام 1905، لتكون العلمانية البند الاول في ناصية الدستور الفرنسي، وتكون الدولة متحررة من أي توجه او تأثير للتعاليم الدينية، مع ذلك يسعى البعض لتسويق هذه الفكرة الى البلاد المأزومة، بدعوى أنها الحل لمشكلة "حوار الطرشان" القائم بين النخب السياسية في بلادنا، وبين الاحكام والتعاليم الاسلامية.

وإذن؛ فان المشاكسة العلمانية – الغربية لن تتوقف مع المسلمين هناك، كما لم تتوقف الهفوات والسقطات التي تكشف ازدواجية المعايير العلمانية على لسان هذا المسؤول او ذاك، مادامت الخشية مستمرة من الانتشار الاسلامي وتأثر المجتمعات الغربية بالنظام الاجتماعي في الاسلام، لاسيما فيما يتعلق بالمرأة، حتى أن الساسة في الغرب – كما حصل مع رئيس الوزراء الفرنسي- لم يعد يخفون خشيتهم من التحدي الاسلامي لنموذج المرأة الغربية، لاسيما وأن الفرنسيين بشكل خاص والغربيين بشكل عام.

اضف تعليق