q

في عراقنا وعلى ارض الواقع لا يعتبر معيار الكفاءة في اشغال الوظائف المعيار الأول بل تعود الأمور إلى تقييم الأحزاب، وهي بدورها تعين شاغليها بما يوائم الحزب وقادته وبما يحقق الحظ الأوفر لهم من الطاعة والمكسب، بغض الطرف عن كونه مؤهلا ودون اعتبار للمصلحة الوطنية العليا، وعلى نفس السياق يسري معيار الولاء الحزبي في كل الميادين الخاضعة لتلك الحقيبة، ولم تعد الوظيفة الحكومية تقاس بنوعية الشهادات، ومقدار الكفاءة العلمية، والخبرة المتراكمة، بل بما يتبعه المتقدم للعمل من حزب سياسي يكن له الولاء ويعمل كجندي تحت إطاره.

هذا ما أصبح عليه الواقع العلمي العراقي والذي همشت فيه الكثير من معايير الكفاءة وضاعت فيه خيارات الاختبار الصحيح بين المتقدمين لنيل الوظيفة، وهذا ناجم عن مدى العلاقة بين الحزب والوظيفة وتأثير ذلك على الوظيفة الحكومية، ولذلك فالعلاقة متينة ومتلازمة بين معيار الاختيار والحزبية، وبعيداً عن الأخذ بعين الاعتبار المعايير المناسبة للتوظيف فإننا نجدهم يورثون الوظائف في الدوائر الحكومية واصبح واقعا بالتعيين العائلي اي (عائلة كاملة اخ وابن واخت الخ)، او التعيين القبلي كلهم من عشيرة واحدة، او التعيين المذهبي كلهم من مذهب واحد، وبهذا نجد أن العلاقة بين الحزبية والوظيفة العامة تنطلق من عقلية "الغنيمة" التي تشكل أحد مكونات العقل الحزبي العراقي الجديد.

وربما تتجاوز في مثالنا احتكار الوظيفة العامة إلى الهيمنة على كل مقدرات البلاد، فيصبح الحزب المسيطر أو الفرد أو الجماعة الحاكمة، متحكماً بكل هذه المقدرات دون أن يراجعه أحد في ذلك، خاصة تلك الأحزاب التي تأمل أن تصل إلى الحكم وتحصل -كما سابقها- على حصتها "الشرعية" في نظرها فقط من ثروات البلد وإمكاناته، ومن خلال ذلك لا توجد أي معايير يتم على ضوئها اختيار الوظيفة سوى الحزبية والمحسوبية والنفوذ والمناطقية والقبلية، أو كل ما يمكن أن يساعد على تعيين الأقارب والأصدقاء والمقربين.

وبذلك اصبح اغلب مؤسساتنا فاشلة وتفتقد التخطيط السليم في توزيع المناصب الوظيفية ولم يكن بقاموسها مبدا الرجل المناسب في المكان المناسب واصبحوا يتندرون على تلك القاعدة، مما جعل من الأحزاب السياسية مجرد "جمعيات (للتعيين الفاسد) لا تبحث على تطبيق برنامجها السياسي أو تحويل المجتمع حسب مشاريعها، لقد أدت الوضعية التي آلت إليها الأحزاب، بفعل عوامل كثيرة، إلى جعلها ليس فقط غير قادرة على ممارسة وظيفتها في مجال الخدمة المواطنين فقط، ولكنها حالت دون تمكينها من تكوين وإفراز نخب سياسية مؤهلة تساهم إلى جانب الدولة في تسيير وتدبير الشأن العام، وبالتالي فان الموظف الحزبي غير قادر على اداء مهامه كموظف، بل هو اصبح عبئا ثقيلا على الدولة ومؤسساتها حيث اصبح غير منتج.

في حين النصوص الدستورية التي اعتبرت الموظف أداة الدولة في تنفيذ المهام والواجبات العامة، ومن خلاله تنفذ الأعمال وتقدم الخدمات العامة لعموم أفراد الشعب بدون محاباة، أو تمايز بينهم على أساس المذهب، أو العرق، أو الجنس، أو الدين، أو اللون على وفق ما جسده دستور جمهورية العراق في نص(م/14) منه، مما يوجب على الموظف تنفيذ المهام والواجبات الوظيفية بمهنية عالية وحيادية تامة بعيداً عن الولاءات السياسية والحزبية بما يؤكد النظام المؤسساتي للدولة، لذا تأتي قوانين الوظيفة العامة لتؤكد مبدأ حيادية العمل الوظيفي إبتداءً من اختيار الموظف العام وتعيينه وممارسته للمهام والواجبات بمهنية وموضوعية دون ميل، أو هوى، أو تأثر بالإعتبارات السياسية وتياراتها التي قد تعصف بصرح الوظيفة العامة وتهدد ركائزها بآفة السياسة.

بيد إننا نجد أن البند (ج) من تعليمات لائحة السلوك الوظيفي (مدونة السلوك) التي أصدرتها هيئة النزاهة اشارت إلى أهم الإلتزامات والواجبات التي يجب على الموظف الامتثال إليها والقيام بها عند ممارسته لعمله الوظيفي ومنها الحيادية السياسية، إلا إنه مع ذلك فإن النص المذكور غير كافٍ لاقرار الحيادية السياسية لمنحه القوة والالزام القانوني الذي يتناسب مع أهميته لذا لابد من النص عليه في قانون إنضباط موظفي الدولة وأن يكون ملزم للادارة والموظفين على حد سواء، ويتضح مما ورد اعلاه حرية الموظف العام في التعبير عن الرأي والمعتقد يقتضي منه الالتزام بواجب الحيادية السياسية بأن يؤدي عمله الوظيفي بكل موضوعية مهنية بعيداً عن التحزب والتعبير عن الرأي السياسي أثناء ساعات العمل الرسمي، أو أن ينعكس ذلك في عمله بأي شكل من الأشكال، حيث يغدو فيها الحيادية أمراً بعيد التحقق لأن الموظف يرتبط إرتباطاً وثيقاً مع السلطة السياسية ومصيره مرتبط بمصير القادة السياسيين الذين عينوه وفقاً لما يُعرف بنظام الغنائم، وبالتالي تكون الوظيفة العامة مقابلة ومجازاة للمساندات والخدمات التي تحصل عليها رجال السياسة وقادتها، وممكن ان نعتبرها من أخطر وأكبر المشاكل التي تجابه الامن الوطني، وبالذات اناطة المناصب العليا وخصوصا الامنية والعسكرية منها والتي تمت على معيار الولاء الشخصي أو الحزبي أو المناطقي او المذهبي.

أي لا يبحث متخذ القرار عن الأكفاء والأكثر تأهيلاً ونزاهة وخبرة لشغل المنصب بل يبحث عن الأقرب منه والأكثر ولاء له، وبالتالي فإن هذا الاختيار ينعكس سلبا على أداء هذا الموظف الذي يضع نصب عينيه وهمه وشغله الشاغل كيفية إرضاء من عينه لعدم ثقته بنفسه، ولذلك تأسس وعشش الفساد المالي والإداري والأخلاقي في مؤسسات الدولة، واليوم نحصد ثمار الاحزاب الكارثية على البلد، بدولة عاجزة عن تقديم ابسط الخدمات للمواطن وهذا هو الخطر الحقيقي على الامن الوطني العراقي.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق