q

سؤال بديهي والإجابة عنه بديهية أيضا، على الأغلب لا تلتقي السلطة مع الضمير، لسبب جوهري، فالسلطة تنتمي الى النفس ورغباتها المادية، والضمير لا يقترب من النفس إلا عندما يكون رادعا ومؤنّبا لها، وهذه ميزة العظماء الذين يتحكمون بأنفسهم ويعملون بما تمليه عليهم ضمائرهم الحيّة، وأمثالهم في هذه الدنيا قليلون ونادرون، تأريخنا الاسلامي في حلقاته المشرقة يضم مثل هؤلاء الأفذاذ الذين قادوا السلطة بضمير ولم تستطع السلطة أن تقودهم قط.

فالسلطة فعل فوقي، يصدر عن جهة عليا، تمتلك قوة التنفيذ، وفق صلاحيات ممنوحة لها من لدن الأدنى، فـ (العائلة) مثلا تخضع للسلطة الأبوية مقابل خدمات الرعاية المعنوية والمادية، وهي سلطة إدارية إذا كانت في مجال عمل إداري، وهي سلطة سياسية عندما تتعلق بالحكومة والشعب المحكوم بشروط العقد الاجتماعي الذي يلزم الفرد بالتنازل عن جزء من حرياته، مقابل التزام السلطة او الحكومة بتقديم ما يحتاجه ماديا ومعنويا.

والسلطة وفق تفسير ذوي التخصص هي الحق الممنوح من قِبل وضع اجتماعي معترف به وفي كثير من الأحيان تشير كلمة سلطة إلى السلطة السياسية المخولة لفرد أو مؤسسة من قِبل الدولة، ويمكن أن تشير السلطة أيضا إلى خبرة معترف بها في أحد مجالات المعرفة الأكاديمية وتشير كلمة "السلطة" إلى الهيئة الإدارية التي تُخوَّل صلاحيات معينة. ويمكن أن نزيد اذا تحدثنا عن أشكال السلطة، فهي قد لا تعني القوة السياسية دائما، ولا تعني الجانب الجمعي فقط، هنالك سلطة محدودة لا نستطيع أن نطلق عليها تسمية أو مصطلح آخر.

أما السلطة السياسة فهي تتحدد ضمن نطاق الصلاحيات المشروعة التي يتمتع بها كيان ما عندما يتصرف بالنيابة عن الحكومة، وتُمنح هذه الصلاحيات من خلال القنوات المعترف بها رسميًا داخل الحكومة، وتمثل جزءًا من السلطة العامة للحكومة - على سبيل المثال- قد تتمتع حكومة ما بسلطة لإعدام المجرمين، ويمكن للحكومة بعدئذٍ أن تحتوي على هيئة محلفين مخولة لتحديد ما إذا كان المواطن مجرمًا أو غير مجرم؛ وقاض مخول بالحكم على المجرمين بالإعدام؛ وجلاد مخول بقتل المجرمين الذين حكم عليهم بالإعدام. وفي المقابل، قد يتمتع حشد من المواطنين بالقوة اللازمة للقيام بكل الأشياء المذكورة أعلاه، ولكنهم لا يتمتعون بالسلطة لأن الإجراءات لن تكون مشروعة.

ما بين السلطة والأخلاق

أما الضمير أو ما يسمى بـ الوجدان، فهو قدرة الإنسان على التمييز فيما إذا كان عمل ما خطأ أم صواب أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل، وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة أو النزاهة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية، وهنا قد يختلف الأمر نتيجة اختلاف البيئة أو النشأة أو مفهوم الأخلاق لدى كل إنسان.

وفسر علماء العصر الحديث في مجال العلوم الإنسانية وعلم النفس والأعصاب الضمير بأنه وظيفة من وظائف الدماغ التي تطورت لدى الإنسان لتسهيل الإيثار المتبادل أو السلوك الموجه من قبل الفرد لمساعدة الآخرين في أداء وظائفهم أو احتياجاتهم دون توقع أي مكافأة وذلك داخل مجتمعاتهم، والضمير وصف وكلمة تجسد كتلة ومجموعة من المشاعر والأحاسيس والمبادئ والقيم تحكم الإنسان وتأسره ليكون سلوكه جيدا محترما مع الآخرين.

في قول للمفكر والفيلسوف المعروف مونتسكيو يقول فيه (إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل فضع السلطة في يده ثم انظر كيف يتصرف) من هذا الرأي نستطيع أن نلحظ مدى التأثير المتبادل بين السلطة والأخلاق، فالسلطة هي صاحبة التأثير السلبي في الغالب على الأخلاق، فيما يكون للأخير قدرة على ضبط زمام السلطة وجعلها ضمن الحدود الانسانية التي لا تسيء للآخرين، مهما كان نوع السلطة، سياسي، وظيفي، أبوي .... الخ.

ثمة سؤال يتم تداوله في أروقة مختلفة حول السلطة وردود الافعال حولها، فهناك حساسية تجاه السلطة بكل أنواعها، وهناك رصد مستدام لإجراءات السلطة في أي مكان تكون، فصاحب السلطة في حالة رصد تحت مجهر المراقبة دائما، وهناك أحكام مستمرة غالبا ما تطول شخصه او كيانه تبعا لطبيعة السلوك والفكر السلطوي الذي يصدر عنه.

وثمة من يرى أن السلطة بذاتها، ليست فاسدة ولا يمكنها إفساد العقول الكبيرة، أو القلوب المؤمنة، ولا الضمائر الشريفة، وهناك ما يدعم هذا الرأي في التجارب التاريخية للسلطة، يقول الأديب والمفكر المعروف برنادشو إن (السلطة لا تفسد الرجال، إنما الأغبياء، إن وضعوا في السلطة، فإنهم يفسدونها).

نعم إن الأغبياء من السلاطين، هم الذين يفسدون السلطة، عندما يجعلون منها مفتاحا لآمالهم التي لا تتوقف عند حد معين، والمشكلة أن مجمل هذه الآمال مجافية للحق، وبعيدة عن العدل، وكارهة للإنصاف، ولا هدف لها سوى تنفيذ مطامح السلطان وتحقيق ملذاته ومآربه التي تقع في الغالب خرج حدود الشرعية كونها تفتقر للعدالة وقيم الأخلاق المتسامية.

وللأسف قلما يتحقق الـتآخي بين السلطة والضمير، وعندما يحصل مثل هذا التلاقي والتقارب بين الاثنين، فهذا يعني أننا إزاء حاكم من أولئك الحكام النادرين، وهؤلاء العباقرة تتمسك بهم عصورهم العظيمة لأنها تأخذ سموها وتميزها وعظمتها من هؤلاء العظماء، فـ (ما من شيء أجمل وأفضل من السلْطة إذا تآختْ مع الضمير).

الشرعية هي السلطة الفعلية

ولهذا سلطة الضمير، أو السلطة التي تقترن بالضمير، تجعل من قيم العدل والمساواة والإنصاف ميزانا لها ودليلا لمسيرتها وخطواتها الفعلية، وهي تمضي نحو تنفيذ حوائج الناس وقضائها بشرف وليس بمنّة أو تبجّح، ولابد أن يكون معيار الشرعية هو الداعم الأول لأحقية السلطة والسلطان، وهذا درس ينبغي أن يأخذ به حكام اليوم في الدول الاسلامية.

وهكذا لابد أن يكون مصدر السلطة شرعي، وهو صوت الشعب، ومدى قربه من السلطة وابتعاده عنها، ففي رأي مؤثر وجميل حول السلطة لعبد الرزاق السنهوري يقول فيه (يجب أن تكون السلطة الشرعية هي السلطة الفعلية لا أن تكون السلطة الفعلية هي السلطة الشرعية)، ولا يصح العكس قط، فالحاكم الموجود على رأس السلطة ليس هو الحاكم الفعلي بل مدى شرعيته هي التي تحدد ذلك.

هل يتنبّه حكام المسلمين الى هذا الشرط وهم يقودون الناس ويسوسون شؤونهم؟، هل تسعى سلطة حكامنا اليوم الى التقارب مع ضمائرهم، أم هناك جفوة بينهما، وفجوة واسعة تفصل بين السلطة والضمير؟؟ الإجابة الحقيقية الصادقة، تصدر من الحاكم نفسه، ومن ضميره الذي ينبغي أن يكون حيّا وصادقا، فإذا حدث مثل هذا التقارب وتقلصت الفجوة بين الاثنين (السلطة والضمير)، فإن الحاكم سوف ينضم الى قائمة العظماء النادرة.

ولكن اذا تباعد الضمير عن السلطة، وتحكمت النوازع المادية بالحاكم، ونسي ضميره ووضعه في ثلاجة (المنافع والمصالح) الآنية الزائلة، على حساب مصالح الناس، فإن هذا الحاكم سوف يخسر المجد والخلود، في مقابل منافع (المال واللهو وتحقيق مآرب النفس الأمارة بالسوء)، ثم يا له من مآل، وما أسوأها من عاقبة، عندما يفصل الحاكم بين ضميره وسلطته، مجيّرا السلطة لصالح ما تبتغي نفسه من مآرب أقل ما يُقال عنها أنها غير شرعية وهي في معظمها تنتمي الى الفعل الخاطئ الذي يدفع بالحاكم نحو الهاوية، وما أسوأها من هاوية، فهل يرعوي سياسيو عصرنا الذي يكتظ بحكام لا تلتقي ضمائرهم مع السلطة قط.

اضف تعليق