q

ازدهرت ظاهرة الشوارع الثقافية في المدن العراقية من سنوات قليلة، وكان النموذج المزدهر والمثال الحي لها، شارع الثقافة في بغداد، والمقصود به شارع المتنبي العريق، الذي يقع بالقرب من ساحة ساحة الميدان، حيث المقاهي الثقافية فتحت أبوابها منذ زمن بعيد بالقرب من هذا الشارع، ومنها أو أقربها إليه، (مقهى الشاهبندر)، ومقهى (حسن عجمي) ومقهى (البرلمان)، ومقهى (البرازيلية)، و (قاعة حوار) بالقرب من أكاديمية الفنون، وهي مقاه وأمكنة ذات صبغة ثقافية وإن كان ذات طابع مختلط.

يرتاد هذه المقاهي مجاميع مختلفة من المبدعين العراقيين منهم أدباء (شعراء وقصاصين وروائيين ونقاد)، وكذلك فنانين في مختلف ضروب الفن منهم (التشكيلي، والممثل، والمخرج....الخ)، ويجلس معهم خليط شعبي، (طلبة، عمال، كسبة، وحتى حمالين)، وهذه ميزة جيدة لهذه المقاهي، حيث يختلط الشعبي بالمثقف، فيكون هناك شيء من تبادل الأدوار بين المثقف وصاحب الوعي الأقل في الفكر والثقافة، ويحدث نوع من التطوير للطبقة الشعبية، حيث ينتج عن هذا التقارب مبدعين في مجالات عدة.

شارع المتنبي كان في بداية الأمر ينطوي على مهام معروفة ومحددة، جلّها ثقافي فني، فمثلا يلتقي المثقفون والمفكرون والأدباء والمبدعون عموما في هذا الشارع كل يوم جمعة قبل الظهيرة، وغالبا من يبحثون عن الكتب النادرة والجديدة في مجالات أدبية وعلمية وإنسانية متنوعة، فيعثرون على ضالتهم في المكتبات التي تتوزع جانبي هذا الشارع، ترتصف الى جانب بعضها، محملة برائحة الكتب القديمة والجديدة.

وفي قلب هذه الشارع مقهى (الشابندر) يلتقي فيها الأدباء في تجمع بهيج من كل محافظات العراق، وهي ظاهرة ظلت مستمرة الحضور والتنامي حتى هذه اللحظة، وكانت حتى قبل سنوات قريبة (5)، الثقافة هي المظهر الوحيد الذي يغلف هذا الشارع، عبر الكتب والمكتبات، ولم تكن هناك معالم للخروج على النسق الثقافي لهذا الشارع.

في وقت معين تحول الشارع الى حاضنة للمظاهرات، ثم تعرض لاستهداف إرهابي همجي، عندما تم تفجيره، فبقي شهورا في حال يرثى له، ولكن عادت الحياة له مثل كل الرموز والأشياء غير القابلة للهزيمة او الموت، ومن الجدير بالذكر أن هذه العودة جلبت معها أنشطة مضافة، وفتحت آفاقا أخرى واسعة لمهام هذا الشارع، فصار بالإضافة الى مهامه الثقافية، حاضنة للمجتمع المدني والتجمعات الصغيرة التي تشتاق للحرية فتجدها هنا في هذا الشارع.

وهناك في القشلة، بمحاذاة هذا الشارع، ساحة خضراء متوسطة المساحة، وفيها مظلات ومقاعد يتجمع فيها الخطباء والأدباء والفنانون والممثلون والمسرحيون من كل الأعمار، وتبدأ في كل يوم جمعة فعاليات مختلفة بكامل الحرية، وهذا مظهر لم يألفه العراقيون، فتوسع وتكاثر وشكل ظاهرة مدنية جديدة في عصرنا الراهن.

المحافظات وتجربة المتنبي

من الأمور التي تم ملاحظتها، تلك الزيارات الأسبوعية التي ينظمها مختلف المبدعين الى شارع المتنبي، حيث الحياة تنبض بالفن والثقافة ومظاهر حرية الرأي، وأضافت مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة (الفيس بوك)، قوة لهذا المكان الثقافي، فبات كل من يزور المتنبي يرفق هذه الزيارة بمجموعة من الصور بكامرة الموبايل الذكي ويقوم بنشرها في صفحته بالفيس بوك، فتصبح نوعا من الإعلان المجاني لهذا الشارع وهذه الظاهرة الثقافية.

ما دفع بالمحافظات والمثقفين والفنانين وعموم المبدعين للدعوة الى إنشاء شوارع من النموذج نفسه في كل محافظة، وبالفعل تم استنساخ المتنبي في عدد من المحافظات منها ميسان، والنجف الاشرف، وذي قار، وكربلاء المقدسة وسواها، وسوف أتحدث عن تجربة استنساخ ثقافي عايشتها عن قرب في محافظة كربلاء مع عدد من الشبيبة الرائعين المتحمسين بصورة جادة لخلق رئة ثقافية فنية فكرية يتنفس فيها المواطنون الكربلائيون الثقافة والفن والحرية والمدنية العميقة.

وبالفعل أعلن مجموعة من الشباب في كربلاء، عن نيتهم باستنساخ شارع الثقافة في العاصمة، وتكرار التجربة هنا في قلب المدينة، وتحركوا للحصول على رقعة مكانية بالقرب من الدوائر الحكومية في منتصف المدينة، وحصلوا على بقعة خضراء، محاطة بالأشجار، نثروا فيها الجمال الفكري والثقافي، فتم تقديم عروض مسرحية من المسرح الصامت، ومعارض كتب صغيرة، وأخرى تقدم نحف أثرية، ومنها سلع مصنوعة يدويا، وهنالك لوحات تشكيلية، ورأينا تجمعات لشعراء، ودوائر تضم مبدعين من كل الأعمار.

فرأينا أدباء من أصحاب الأعمار والتجارب الراسخة، يجلس معهم شباب في مقتبل العمر في دائرة واحدة، يفترشون الأرض الخضراء والجدية واضحة في وجوههم مع حضور الابتسامة أيضا، وهم يحاولون التعلم والاستفادة ممن سبقوهم في المشوار بحكم العمر وسنة الحياة، حضر افتتاح شارع الثقافة في كربلاء المقدسة عدد لا بأس به من الناس والمتابعين والمعنيين، في مؤشر جيد جدا، على الترحيب بهذه المبادرة.

كذلك سمعنا من بعض الشباب تعاون الحكومة المحلية والجهات الحكومية المعنية مع الشباب القائمين على هذه التجربة، مع أننا اتفقنا على أن الرقعة التي مُنحت لهذه التجربة صغيرة نسبيا، وإذا تنامت هذه التجربة فيحتاج الأمر الى مكان اكبر وأوسع، ولكن كخطوة أولى، وتأسيس ابتدائي لهذه التجربة، فإن المبادرة ناجحة في كل المقاييس.

لهذا تستحق الدعم، خاصة أن التنوع في مفردات هذا المكان الثقافي الإبداعي الجديد، أثرى هذه المبادرة ومنحها تأشيرة الدخول الى عالم الثقافة، وشهادة نجاح تستحقه، ويستحقه مجموعة الشباب المتحمس الذي قدم نموذجا للشباب القادر على تقديم نشاط (وإن بدا فيه بعض النواقص)، إلا أن البداية مشجعة، والمواصلة في التجربة كفيلة مع الحرص وتواصل الحماس الإبداعي، بتلافي النواقص وتجنبها اذا ما كُتب لهذه التجربة بالاستمرار.

دعم الشباب هدف أساس

بغض النظر عن نتائج تجربة استنساخ شارع المتنبي، ونشره في عموم محافظات العراق، نستطيع أن نستنتج بعض النتائج ونضع بعض الملاحظات حول هذه التجربة وأهميتها، منها، كونها مبادرة شبابية تصب في تعميق حرية الرأي والفكر، فإن دعمها مدنيا ورسميا أمر لا غبار عليه، بل هو واجب ينبغي أن يكون مستمرا لتعميق سمة التجديد والإصرار لدى شريحة الشباب، لاسيما أننا نعاني من مشكلات سياسية اقتصادية تعليمية اجتماعية، قد تشكل عوامل إحباط لشريحة الشباب العراقي.

ولا ينبغي النظر الى مثل هذه الفعاليات الشبابية على أنها خرق للسائد الاجتماعي او العرفي، كما أن نظرة الحسد والانتقاد المبيّت ينبغي أن تختفي الآن، كون التجربة في مرحلة الولادة وعدم الثبات، لهذا من الأفضل او الواجب على راسخي التجربة ان يدعموا الشباب، مع تأشير النواقص بأسلوب غير جارح، أي من باب الحرص والنصح الخالص.

حساسية الشباب غالبا ما تكون شديدة وسريعة التأثير في الاتجاه السلبي، لذلك ينبغي أن يكون لدى أصحاب التجربة مجسات قوية تجنبهم الوقوع في الخطأ أثناء تقديم الملاحظات وبعض الاعتراضات على التجربة، المهم ان تكون قضية استنساخ تجربة المتنبي داعمة للثقافة ومحركة لها، وتصب في صالح تعميق حرية الرأي وحمايته.

وبهذا يمكن أن يسهم الجميع في تحقيق الهدف المنشود، وهو هدف ذا طابع جمعي يجمع بين عدة أهداف مهمة، منها، نشر الثقافة والوعي بين اكبر عدد ممكن من الأفراد والجماعات داخل النسيج المجتمعي العراقي، وكذلك تعميق المظاهر المدنية وتوسيع آفاقها، ونشر مبدأ الحفاظ على حرية الرأي، فينبغي أن يكون للجميع الحق بقول آرائهم وأفكارهم من دون مصادرة رسمية للرأي او أية جهة كانت، وهذا هو المكسب الأهم الذي حصل عليه العراقيون في المرحلة الجديدة.

اضف تعليق