q

حسن خضر

 

يصعب العثور على قاسم مشترك بين المحاولة الانقلابية في تركيا، وحادثة اطلاق النار في مدينة ميونيخ الألمانية، فكلاهما يتسم بدلالات مختلفة. ومع ذلك، إذا تأملنا كيفية معالجة الحكومات لأحداث طارئة قد تنطوي على تداعيات سياسية واجتماعية بعيدة المدى، يمكن العثور على ما يبرر المقارنة لاستخلاص العبر.

ولنبدأ بالأحدث من حيث الترتيب الزمني، أي مقتل عشرة أشخاص في سوق تجارية في ميونيخ على يد ألماني من أصل إيراني. جاءت الحادثة المعنية بعد هجوم شخص من أصل أفغاني على مسافرين في قطّار للركاب في ولاية بافاريا الألمانية، التي تُعتبر ميونيخ عاصمتها وكبرى مدنها.

وقع الهجومان بعد هجمة إرهابية أكبر من حيث الحجم والصدى وعدد الضحايا، في مدينة نيس الفرنسية. وبهذا المعنى تنطوي حادثة السوق التجارية في ميونيخ على تداعيات تتجاوز حدود مدينة ميونيخ، وولاية بافاريا، لتمس عصباً نافراً في المشهد السياسي الألماني، والأوروبي، وتزيد من خطورة وإلحاح أسئلة تتعلّق بحاضر ومستقبل الحكومات القائمة، في ظل صعود حركات عنصرية قومية وفاشية معادية للهجرة والمهاجرين، ناهيك عن حاضر ومستقبل الجاليات المهاجرة، التي ترى فيها الحركات المعنية مصدراً لزعزعة الأمن، وتفشي ظاهرة الإرهاب.

يُدرك صنّاع السياسة في الائتلاف الحاكم في ألمانيا، الذي يضم أكبر حزبين في البلاد، أن نسبة لا بأس بها من الناخبين الألمان لا تؤيد سياسة المستشارة ميركل في مسألة الهجرة والمهاجرين، وأن المؤيدين للأحزاب اليمينية المتطرفة في ازدياد. ومع ذلك، لم يظهر حتى الآن ما ينم عن محاولة من جانب هؤلاء لمنافسة اليمين القومي على أصوات الناخبين بالمزايدات وتبني سياسات شعبوية.

ولعل في حادثتي الهجوم على المسافرين في قطار، واطلاق النار على الناس في سوق تجارية ما يصلح كوسيلة إيضاح. ففي الحالتين تجنّبت الحكومة الألمانية، ومصادرها الشرطية والإعلامية، تضخيم الحدث، وحاولت بكل طريقة ممكنة الفصل بينه وبين موضوع الهجرة والمهاجرين. وفي حادثة السوق التجارية على نحو خاص سارعت إلى تقليص شبهة الإرهاب، وركّزت على نفي صلة المهاجم بالتطرّف الديني.

ينطوي هذا النوع من العقلانية على قدر من المجازفة لأنه يثير حنق ناخبين تملّكهم الخوف، ويتوقعون ردود فعل، وإجراءات استثنائية، أو حتى ثأرية، بحجم مخاوفهم. ولكن دغدغة مشاعر هؤلاء تنطوي على مجازفة أكبر، وتصب الماء في طاحونة التطرف القومي والنزعات العنصرية، وتُسهم في المدى البعيد في تقويض أمن وسلامة المجتمع والدولة، في حال تراجع الخطاب العقلاني أمام الهستيريا الجمعية، وكراهية الغريب والمختلف، وتسويغ البحث عن أكباش فداء كلما شعر الناس بخطر من نوع ما.

وهذه ليست مسألة نظرية في كل الأحوال، فقد دفع الألمان والأوروبيون ثمناً باهظاً في النصف الأوّل من القرن العشرين، عندما جوبهت مجتمعاتهم بأزمات اقتصادية وسياسية، وتراجع فيها خطاب العقلانية السياسية، وصعد فيها مغامرون ومستثمرون في سياسة وأيديولوجيا الخوف، والهستيريا الجمعية، وكراهية المُختلف والغريب.

ولعل في خلاصة كهذه ما يبرر مقارنة العقلانية التي تبديها حكومات أوروبية للحد من خطر الشعبوية في السياسة، بردة الفعل في تركيا بعد المحاولة الانقلابية. فبدلاً من تقليص كل احتمال للشعبوية، والحيلولة دون تفشي الهستيريا الجمعية، تعاملت الحكومة التركية مع المحاولة الانقلابية بوصفها "هدية من الله" كما قال أردوغان، للفتك بكل الخصوم المحتملين لنظام وأيديولوجيا حزب العدالة والتنمية الحاكم.

لا أحد يعرف، بالضبط، عدد المعتقلين والمطرودين من وظائفهم. وحسب صحيفة الإندبندنت البريطانية فقد طُرد حتى الآن 2745 من القضاة والمدعين العامين، وأقيل 1500 من عمداء الكليات، كما تم سحب ترخيص 21 ألف معلّم، واعتقل أو طرد من الخدمة قرابة 35 ألفاً من العسكريين والعاملين في أجهزة الأمن. هذه أرقام تقريبية ويبدو أنها مرشحة للزيادة. وقد استبعد كثير من المراقبين أن يكون كل هذه العدد من العاملين في الجيش والقضاء والتعليم وبيروقراطية الدولة طرفاً في المحاولة الانقلابية. والأرجح أن ثمة الكثير من أكباش الفداء بينهم.

وفي السياق نفسه أثار البعض إمكانية أن تكون قوائم الاعتقالات مُعدة سلفاً، وأن تكون الحكومة التركية قد اتخذت من المحاولة الانقلابية ذريعة لتسريع حملة تطهير على نطاق واسع. وهذا محتمل، فكما حاولت جماعة الإخوان في مصر، خلال العام الذي قضته في سدة الحكم، اختراق الجهاز المركزي للإحصاء، وتكوين قاعدة بيانات للمعارضين والمؤيدين في الدولة والمجتمع، فمن المتوقع أن تكون الأذرع الأمنية الخاصة في حزب العدالة والتنمية، الذي يحكم البلاد منذ 14 عاماً، قد وجدت الوقت الكافي لعمل كهذا.

وفي كل الأحوال، سواء وجدت القوائم المُسبقة أو لم توجد، ثمة حملة تطهير واسعة النطاق بشعارات شعبوية، ونـزعة ثأرية صريحة، تهدد سلام وسلامة الدولة والمجتمع التركيين. وفي هذا ما يبرر المقارنة وتأمل الفرق بين حكومات ودول وطريقة تعاملها مع مخاطر جدية تجابه الدولة والمجتمع. وفي هذا، أيضاً، يبرز الفرق بين حكمة العقلانية في السياسة، وبعد نظرها، ونزق سياسات الشعبوية وقصر نظرها، ومخاطر نـزعتها الثأرية.

اضف تعليق