q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

هل أهمل المسلمون رصيدهم الثقافي الأخلاقي؟

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

مؤشرات كثيرة تؤكد إهمال بعض الحكومات الإسلامية، والطبقات السياسية، وبعض الشرائح الأخرى، لقيمة أساسية من قيم الحياة وإصلاحها، ألا وهي الأخلاق، والدور الذي يمكن أن تقوم به من اجل بناء أمة متطورة متماسكة ديدنها النظر الى الأمام، والسعي الى التفوق في ظل منهج العدالة والمساواة والإنصاف، الذي سار عليه نبينا الأكرم محمد (ص)، ومن بعد آل بيته الأطهار (ع)، كما أثبتت المدوّنات التاريخية غير القابلة للتزييف.

لقد كانت قيمة الأخلاق بمثابة البوصلة التي توجه المسلمين نحو الجادة الصواب، ولذلك كانت امة الإسلام تتصدر الأمم الأخرى وتقف في موقع الريادة دائما، على العكس من حالة التشتت والتشرذم والتأخر التي يعينها المسلمون في ظل إهمال لقيمة الأخلاق، مع النقص الكبير في الثقافة والوعي وتطبيقهما في حياتنا العامة.

وقد شكا الإمام الراحل، آية العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، من إهمال المسلمين في العصر الراهن لقيمة الأخلاق التي تمسك فيها رسولنا الكريم إبان قيادة المسلمين نحو العلا، فقد قال الإمام الشيرازي في كتابة القيم الموسوم بـ (الأخلاق الإسلامية) في معرض حديثه عن هذا الموضوع: (قد يتملّك الإنسان العجب حينما يرى البون شاسعاً بين القيادة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأخلاق، وبين المستوى الذي انحط إليه خلق المسلمين في العصر الحاضر).

ونتيجة هذا الإهمال المتعمَّد للأخلاق، سادت بين الشباب المسلم قيم أخلاقية دخيلة علينا، وجلها قادم من الغرب الذي كان ولا يزال يحاول التأثير على المسلمين وخاصة شريحة الشباب، كي يجعلهم مقلدين له، ومتخلين عن قيمهم التي كانت السبب الأول في جعل المسلمين في صدارة الأمم الأخرى.

يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال بكتابه نفسه: (من المدهش حقاً أن يتهافت شباب المسلمين على فتات من موائد الغرب أو الشرق، زاعمين أنه غذاء الروح وحده، فإذا ظهر كتاب (كيف تكسب الأصدقاء) هرعوا إليه، من غير علم بأن ما فيه ليس إلا جزءاً من ألف جزء من رصيدهم الثقافي الأخلاقي الضخم، الذي نثره بين أيديهم كتابهم وشريعتهم من قبل أربعة عشر قرناً).

الارتباط الوثيق بين الدين والخُلق

ومما يشار إليه بالبنان، ذلك الترابط الوثيق بين الدين والأخلاق، فما يدعو له الدين الإسلامي من قيم وفضائل وسلوك قويم، كله يقوم على قاعدة أخلاقية ترتبط بالدين، إذ ليس هناك تناقض بين هذين الركنين الأساسيين في بناء الحياة، فمن لا دين له لا يمكن أن يتحلى بالأخلاق التي تجعل منه فردا قويما، ويمكن القول أيضا، أن من لا يمتلك قاعدة أخلاقية إنسانية لا يمكن أن يحترم الأديان ويتمسك بجوهرها وتعاليمها.

لهذا نقرأ في كتاب الإمام الشيرازي نفسه: (إن الدين الإسلامي منذ أن أعلن نبيه العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) (بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) أبدى شيئاً لم يكن من قبل، وهو الارتباط الوثيق بين الدين والخلق، حتى أن كل شعيرة من شعائر الإسلام متلاحمة مع فضيلة من الفضائل، فلا الدين وحده، ولا الأخلاق وحدها، بل دين وأخلاق).

وليس القيم والأخلاق هي أن يؤدي الفرد ما يتطلبه الدين من فرائض وسواها، إنما ينبغي أن يربط المسلم بين دينه وأخلاقه، هذه هي القاعدة الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها مناهج المسلمين في حياتهم اليومية وفي مشاريعهم الفكرية والعملية، إن أداء ما يطلبه الدين من منا والالتزام بالفرائض وحدها، لا يعني ان هذا الشخص مكتمل، ولا يمكن أن يكون النموذج الجيد للإنسان المسلم.

فهناك ركيزة أخرى مهمة يجب أن تدعم تمسك الإنسان بالدين، ألا وهي الأخلاق، حتى يمكن القول، أن من لا أخلاق له لا يمكن أن يكون دينه وتدينه متكاملا، فالمهم دائما أن يرتبط دين الإنسان مع أخلاقه القويمة التي يمكنها أن تجعل من سلوكه وأفكاره داعمة للحياة ومشجعة على ترسيخ القيم التي تساعد على بناء المجتمع النموذجي.

لذا يقول الإمام الشيرازي في هذا السياق: (من لا فضيلة له، لا دين له، وإن صلى وصام وزكى وحج.. ومن لا دين له، لا فضيلة له، وإن جاد وأعطى، وواسى ووفى). هذا الترابط الثنائي بين الدين والأخلاق لا فكاك منه، كما أثبتت مجريات الحياة، والدين لا يعني أن تلتزم بأداء الفرائض، ثم تعبث بحياة الآخرين، كذلك لا تعني الأخلاق أن ترفض التعاليم الدينية وتعلن بأنك إنسان خلوق، وهكذا نلاحظ أن هذين القطبين المتداخلين (الدين والأخلاق)، يشكلان مدخلا متميزا لصناعة الحياة الأفضل للأمة.

محو خصال الفساد

كذلك فإن معرفة الأخلاق من دون العمل بها في واقع العيش، لا يجدي نفعا للإنسان ولا للوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، فما هي الجدوى من معرفة الأخلاق دون أن نقوم بتطبيقها في حياتنا، هذه الحالة تشبه حصول المريض على الدواء، ولكنه لا يعرف كيفية استعماله بصورة صحيحة، وفي هذه الحالة يفقد الدواء قيمته وفائدته، فما هي الفائدة من دواء لا نعرف كيف نستخدمه من اجل الحصول على الشفاء من المرض.

يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال: (إن مجرد العلم بالأخلاق دون الاتصاف بها غير مجدٍ ومثالها مثال الجسد بلا روح، كما لا ينفع العلم بالدواء، من دون معرفة كيفية استعماله).

لذلك حتى يحصل الإنسان على منظومة فكرية وسلوكية متكاملة يستفيد منها في حياته، وفي علاقاته مع الآخرين، فإنه يحتاج الى البحث عن الملكات الجيدة التي تتواجد في خلقه التكويني أصلاً، ولابد له أن يسعى الى تثبيتها في نفسه وذهنه وتفكيره وسلوكه، أما كيف يتم تثبيت الملكات الأخلاقية في أعماق الذات البشرية، فإن عملية التكرار المستمر لها وتذكرها والعمل بها وتلقين الذات والعقل والقلب بها، كل هذه الأفعال يمكن أن تجعل من الملكات الجيدة فاعلة وحاضرة في حياة الإنسان.

ويمكن أن تكون مؤثرة في حياته، للدرجة التي تجعل منه إنسانا مكتملا في فكره وفعله، بعد أن يكون حاصلا على ثنائية الدين والأخلاق، التي تحثه وتدفعه نحو العيش بطريقة سليمة تقوم على التوازن والاعتدال والتعاون مع الآخرين، مع الاستخدام الأمثل للمثل والقيم الخلاقة في مجالات الحياة التي ينشط بها الإنسان داخل المحيط الاجتماعي.

ثمة سؤال يلوح في الأفق، هل وظّف المسلمون منهج قائدهم ونبيهم الرسول الأكرم بصورة صحيحة لصالحهم، وهل طبقوه في حياتهم، أم أنهم أهملوا حالة الترابط الوثيق بين الدين والأخلاق، هذه الثنائية التي تمثل أحد أهم اشتراطات نجاح الإنسان في حياته، الجواب يمكن أن نستخلصه من واقع الحياة التي نعيشها اليوم، لذلك نحن نحتاج الى تعميق الملكات في ذواتنا حتى نكون قادرين على النجاح والتطور.

في هذا المجال يقول الإمام الشيرازي: (إن النافع هي الملكة الحاصلة من التكرر، حتى تنطبع في النفس الصفة الحميدة، وتنمحي عنها الخصال الفاسدة، ويصبح الرجل والكرم ـ مثلاً ـ منتهى أمنيته، والشجاعة نقش طبيعته، يجود في كل مناسبة، ويقدم في كل هول.. وحينذاك يمكن أن يطمئن الرجل بوجود الفضيلة في نفسه، وانعدام الرذيلة عنها، لكن دون هذا عقبات وعقبات. وليس أجدى لتحصيل الملكة من دوام التذكر، والاستمرار في العمل، فإن النفس كالورق الأبيض، يؤثر فيها المحيط والبيئة والتربية والتعليم).

اضف تعليق