q

خورخي كاستانيدا

 

مكسيكو سيتي ــ منذ خمسينيات القرن العشرين، لم تتوقف الدول الأوروبية عن مناقشة التكاليف والفوائد المترتبة على التكامل الإقليمي. ومع الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة بدأت المناقشة تدور حول قضايا مثل العولمة، والتجارة الحرة، والهجرة، وما يترتب على هذه القضايا من آثار اقتصادية.

لقد أخطأ الناخبون في المملكة المتحدة في اتخاذ قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ فقد وقعوا فريسة للاحتيال، وخاصة من قِبَل وزير الخارجية البريطاني الجديد بوريس جونسون. ولكن البيروقراطيين ومحبي أوروبا يخطئون أيضا إذا تجاهلوا الأكاذيب التي منحت الحياة لحجج حملة "الخروج". فقد كانت هذه الأكاذيب فعّالة في المملكة المتحدة، وقد تكون فعّالة أيضا في دول أعضاء أخرى في الاتحاد الأوروبي، وفي الديمقراطيات في مختلف أنحاء العالم أيضا.

لن يكون الاستمرار على المسار نحو "الاتحاد المتزايد التقارب" سهلا. إذ يتعين على أوروبا أن تتصدى للعديد القضايا في نفس الوقت، بما في ذلك قضية اللاجئين، وقضية الهجرة، والديون السيادية، وارتفاع معدلات البطالة، ودولة الرفاهة التي لم تعد تفي بوعودها، على الرغم من الضرائب المرتفعة وتوافر موارد هائلة لتمويلها. ولمواجهة هذه التحديات، يتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي أن يعملوا على بناء جمهور ناخبين قوي من خلال تلبية احتياجات الأوروبيين ومطالبهم بشكل مباشر.

كانت العولمة، والتجارة الحرة، والهجرة، والتفاوت بين الناس موضع تجاهل من قِبَل النخب في أماكن أخرى أيضا. فبفِعل هوس جورج بوش الأب، وبِل كلينتون في التسعينيات، والحكومات المكسيكية المتعاقبة، بالتجارة الحرة، أصبح من المستحيل تقريبا تعويض أولئك الذين تأثروا سلبا.

الآن، بعد عشرين عاما من فشل هذا النهج، ليس من المستغرب أن يندفع الناخبون الساخطون في الولايات المتحدة نحو المرشح الجمهوري للرئاسة دونالد ترامب زرافات ووحدانا، تماما كما اندفع كثيرون على جناح اليسار نحو بيرني ساندرز، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت الذي تحدى هيلاري كلينتون على ترشيح الحزب الديمقراطي.

استغل كل من المرشحين مظالم الناخبين الأميركيين ومخاوفهم. في حالة ترامب، ساعد هذا في خلق مشهد مثير للاشمئزاز ينضح باسترضاء المشاعر المعادية للمسلمين والمناهضة للمكسيكيين. وفي حالة ساندرز، كان الناخبون الأميركيون عُرضة لبعض الأفكار الجذابة، مثل التعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، وإن كان تنفيذ هذه السياسات وغيرها يظل غير واقعي من الناحية السياسية.

كانت كل من الاستجابتين نتيجة لفشل الزعماء الوطنيين في تخفيف نتائج السياسات التي جرى وضعها على مدى السنوات العشرين الماضية أو حتى الاعتراف بها. وأي محاولة للبدء في تصحيح هذا الفشل لابد أن تكون قائمة على الواقع. على سبيل المثال، ربما يفاجأ أنصار ترامب وساندرز إذا علموا أن العديد من وظائف التصنيع الجديدة جرى إنشاؤها في الولايات المتحدة منذ الركود العظيم في الفترة 2008-2009، وكذلك بعد استنان اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) في عام 1993. وكان خلق الكثير من هذه الوظائف راجعا إلى ارتفاع الصادرات إلى الصين والمكسيك وبعض دول أخرى صغيرة تفاوضت معها الولايات المتحدة على اتفاقيات تجارية (شيلي، وبيرو، وكولومبيا، بين دول أخرى).

بطبيعة الحال، كان نقل الملايين من وظائف التصنيع إلى دول مثل الصين والمكسيك كافيا للتعويض عن هذا الاتجاه جزئيا، حتى وإن كان من المعقول أن نزعم أن عدد الوظائف التي أنشئت كان أكبر من تلك التي فُقِدَت؛ وأن الولايات المتحدة أصبحت أكثر قدرة على المنافسة بفضل هذا التحول؛ وأن الصين حولت نفسها إلى سوق استهلاكي كبير، وأن حتى المكسيك حققت بعض التقدم.

كانت المشكلة الرئيسية في الولايات المتحدة متمثلة في نوع الوظائف التي ملأت الفجوة بعد هجرة وظائف التصنيع إلى أماكن أخرى. وقد غابت هذه الحقيقة عن صناع السياسات المهمومين بنتائج الاقتصاد الكلي. ولكنها لم تغب عن الناس في الخمسينات والستينات من أعمارهم الذين خسروا وظيفة بأجر ثلاثين دولارا في الساعة فضلا عن الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد، واضطروا إلى العمل بنصف الأجر السابق وقليل من فوائد الضمان الاجتماعي أن وجِدَت.

لم يهتم صناع السياسات بضحايا العولمة، لأنهم لم يعتقدوا أنهم مضطرون إلى الاهتمام بهم. فقد تصوروا أن السوق سوف تتولى تدبير كل شيء من تلقاء نفسها. ولم يحدث ذلك. ولكن لم يكن في هذا أي درس لصناع السياسيات. وقد وصلت المفاوضات التجارية لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ إلى نتيجة مواتية في العام الماضي، مرة أخرى لأن القليل من الجهد بُذِل لحماية العاملين الأميركيين.

وقد ظهرت طفرة مماثلة مناهضة للعولمة في المكسيك، حيث جرى الترويج بإفراط لاتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية وحيث كانت موضع انتقادات مفرطة. لقد جلبت اتفاقية نافتا طفرة رواج الصادرات التي أشاد بها كثيرون وتوقعوها، ولكنها لم تفعل شيئا يُذكَر لمنع الهجرة إلى الشمال. وقد جعلت العديد من الشركات الصناعية والزراعية في المكسيك أكثر قدرة على المنافسة، ولكنها لم تجلب سوى زيادة صغيرة ومؤقتة في الاستثمار الأجنبي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.

وعلاوة على ذلك، في حين ألزمت اتفاقية نافتا المكسيك بالعديد من الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة والمرغوبة، فإنها لم تحقق قط وعد النمو. فمنذ عام 1994، كان متوسط النمو الاقتصادي السنوي 2.5% فقط ــ وهو معدل منخفض بمعايير الأسواق الناشئة ــ في حين كانت أرقام الإنتاجية وتشغيل العمالة والأجور مخيبة للآمال على نحو مماثل.

وبعد اتفاقية نافتا، لم تنفذ قط السياسات المطلوبة لتخفيف الآثار السلبية المترتبة على العولمة ــ مثل رفع الحد الأدنى لأجور العمال في قطاع التصنيع. واليوم تدفع البلاد بالكامل الثمن، والمكسيكيون غير راضين. ورغم أن اتفاقية نافتا لا تتحمل اللوم بالكامل عن الأحوال المتواضعة عموما، فإنها أسهمت في تأجيج المشاعر المناهضة للمؤسسة، والتي قد تؤثر على نتائج الانتخابات العامة في عام 2018.

الواقع أن ردة الفعل الشعبية المعاكسة ضد التغيير المعطِّل للنظم القديمة كانت حتمية، وهي تخدم أحيانا كثِقَل موازن مفيد للقيادة المتهورة. والجديد في الأمر اليوم هو شِدة ردود الفعل في أوروبا وأميركا الشمالية، التي تصور العديد من الخبراء وصناع السياسات أنها أفضل تجهيزا من أي وقت مضى لإدارة التغيير. وإذا حكمنا من خلال ردة فعل الناخبين في بريطانيا والولايات المتحدة والمكسيك، فسوف ندرك أن أي دولة في العالم ليست في مأمن من أخطاء قادتها.

* وزير خارجية المكسيك الأسبق (2000-2003)، وأستاذ العلوم السياسية ودراسات أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي في جامعة نيويورك

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق